« إذْ » عطف على « إذْ » قبلها، وقد تقدم الكلام فيها، و « جَعَلْنَا » يحتمل أن يكون بمعنى « خَلَقَ » و « وضعَ » فيتعدّى لواحدن وهو « البيت »، ويكون « مَثَابَةً » نصباً على الحال وأن يكون بمعنى « صيّر فيتعدى لاثنين، فيكون » مَثَابَةً « هو المفعول الثاني. والأصل في » مثابة « » مثوبة « فأعلّ بالنقل والقلب، وهل هو مصدر أو اسم مكان قولان؟
وهل الهاء فيه للمبالغة ك » عَلاَّمة « و » نَسَّابة « لكثكرة من يثوب إليه، أي يرجعن أو لتأنيث المصدر ك » مقامة « أو لتأنيث البقعة؟ ثلاثة أقوال، وقد جاء حذف هذه الهاء؛ قال ورقةُ بنُ نَوْفَل :[ الطويل ]٧٧٦ مَثابٌ لأَفْنَاءِ القَبَائِلِ كُلِّهَا | تَخُبُّ إلَيْهَا اليَعْمَلاَتُ الذَّوَامِلُ |
وقال :[ الرمل ]٧٧٧ جَعَلَ البَيْتَ مَثَاباً لَهُمُ | لَيْسَ مِنْهُ الدَّهْرَ يَقْضُونَ الوَطَرْ |
وهل معناه من ثاب يثوب أي : رجع أو من الثواب الذي هو الجزاء؟
قولان :
أظهرهما : أولهما قال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير رضي الله عنهم : إنهم يثوبون إليه في كل عام.
وعن ابن عباس ومجاهد رضي الله عنهما :[ أنه لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى العود إليه ]، وقرأ الأعمش وطلحة » مَثَابَاتٍ « جمعاً، ووجهه أنه مثابة لكلّ واحد من الناس.
قوله تعالى :» لِلنَّاسِ « فيه وجهان :
أحدهما : أنه متعلّق بمحذوف؛ لأنه صفة لمثابة ومحلّه النصب.
والثاني : أنه متعلّق بجعل أي : لأجل الناس يعنى مناسكهم.
قوله تعالى :» وَأَمْناً « فيه وجهان :
أحدهما : أنه عطف على » مثابة « وفيه التأويلات المشهورة : إما في جعله نفس المصدر، وإما على حذف مضاف، أي : ذا أمن، وأما على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل، أيك آمناً، على سبيل المجاز كقوله :﴿ حَرَماً آمِناً ﴾ [ العنكبوت : ٦٧ ].
والثاني : أنه معمول لفعل محذوف تقديره : وإذ جعلنا البيت مثابة، فجعلوه آمناً لا يعتدي فيه أحد على أحد.
والمعنى : أن الله جعل البيت محترماً بحكمه، وربما يؤيد هذا بقرأءة :» اتَّخِذُوا « على الأمر، فعلى هذا يكون » وأَمْناً « وما عمل فيه من باب عطف الجمل عطفت جملة أمرية على خبرية، وعلى الأول يكون من عَطْفِ المفردات.
فصل في تحرير المقصود من البيت
اعلم أنه لما ذكر أمر تكليف إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام بالإمامة ذكر بعده التكليف الثاني، وهو تطهير البيت، فنقول : المراد ببيت الله الحرام؛ لأن الألف واللام فيه : إما للعهد أو للجنس، وقد علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس، فانصرف إلى المعهود عندهم وهو الكعبة.
قال ابن الخطيب : وليس المراد نفس الكعبة؛ لأنه تعالى وصفه بكونه » أمناً « وهذا صفة لجميع الحرم لا الكعبة فقط بدليل جواز إطلاق البيت، والمراد منه كل حرم.