لما ذكر - عزَّ وجلَّ - الإيلاء، وأن الطّلاق قد يقعُ بيَّن تعالى حُكم المرأة بعد التَّطْلِيق.
قوله :﴿ والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ ﴾ : مبتدأٌ وخبرٌ، وهل هذه الجملةُ من بابِ الخبرِ الواقعِ موقعَ الأمر، أي : لِيتَرَبَّصْنَ، أو عَلَى بابها؟ قولان، وقال الكوفيون : إنَّ لفظها أمرٌ؛ على تقدير لام الأمرِ، ومَنْ جعلها على بابها، قدَّر : وحُكْمُ المطلَّقَاتِ أَنْ يتربَّصْنَ، فحذف « حُكْمُ » مِن الأول، و « أن » المصدرية من الثاني، وهو بعيدٌ جدّاً.
و « تَرَبَّصَ » يتعدَّى بنفسَه؛ لأنه بمعنى انْتَظَرَن وهذه الآيةُ تحتمِلُ وجهين :
أحدهما : أن يكون مفعول التربُّص محذوفاً، وهو الظاهرُ، تقديرُه : يتربَّصْنَ التزويجَ أو الأزواجَ، ويكونُ « ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ » على هذا منصوباً على الظرف؛ لأنَّ اسمُ عددٍ مضافٍ إلى ظرفٍ.
والثاني : أن يكون المفعولُ هو نفسَ « ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ » أي : ينتظرونَ مُضِيَّ ثلاثةِ قُرُوءٍ.
وأمَّا قوله :﴿ بِأَنْفُسِهِنَّ ﴾ [ فيحتمل وجهين، أحدهما، وهو الظاهرُ : أَنْ يتعلَّق المنفصلِ في مثلِ هذا التركيب واجبٌ، ولا يجوزُ أَنْ يُؤتَى بالضميرِ المتصل، لو قيل في نظيرِه :« الهِنْدَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِهِنَّ » لم يجُز؛ لئلاَّ يَتَعَدَّى فِعْلُ المضمر المنفصلِ إلى ضميرِه المتصل في غير الأبواب الجائز فيها ذلك.
والثاني : أن يكونَ « بَأَنْفُسِهِنَّ » تأكيداً للمضمرِ المرفوع المتصلِ، وهو النونُ، والباءُ زائدة في التوكيد؛ لأَنَّه يجوزُ زيادتها في النفسِ والعينِ مُؤكَّداً بهما؛ تقولُ :« جَاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ وِبِنَفْسِهِ وَعَيْنُهُ وَبِعَيْنِهِ » ؛ وعلى هذا : فلا تتعلَّقُ بشيء لزيادتها، لا يقالُ : لا جائزٌ أن تكونَ تأكيداً للضمير؛ لأنَّه كانَ يجبُ أن تُؤَكَّدَ بضميرِ رفعٍ منفصلٍ؛ لأنه لا يُؤكَّدُ الضميرُ المرفوعُ المتصلُ بالنَّفسِ والعَيْنِ، إلاَّ بعد تأكيده بالضميرِ المرفوع المنفصلِ؛ فيقال : زَيْدٌ جَاءَ هُوَ نَفْسُهُ عَيْنُهُ « ؛ لأنَّ هذا المؤكَّد خرجَ عن الأصلِ، لمَّا جُرَّ بالباءِ الزائدةِ أَشْبَهَ الفَضَلاَتِ، فخرج بذكل عن حكم التوابع، فلم يُلْتَزَمْ فيه ما التزِمَ في غيره، ويُؤيِّد ذلك قولهم :» أَحْسِنْ بِزَيْدٍ، وَأَجْمِلْ «، أي : به، وهذا المجرورُ فاعلٌ عند البصريِّين، والفاعلُ عندهم لا يُحْذَفُ، لكنه لَمَّا جَرَى مَجْرَى الفَضَلاتِ؛ بسبب جَرِّه بالحرفِ، أو خَرَجَ عن أصل باب الفاعل؛ فلذلك جازَ حَذْفُه، وعن الأَخْفَش ذَكَر في » المَسَائِلِ « أنهم قالوا :» قَامُوا أَنْفُسُهُمْ « من غير تأكيدٍ، وفائدةُ التوكيدِ هنا أن يباشِرن التربُّصَ هُنَّ، لا أنَّ عيرَهُنَّ يباشِرْنَهُنَّ التَّربُّصَ؛ ليكونَ ذلك أَبلغَ في المرادِ.
فإن قيل : القُرُوءُ : جمع كثرةٍ، ومن ثلاثةٍ إلى عشرة يُمَيَّزُ بجموع القلة ولا يُعْدَلُ عن القلةِ إلى ذلك، إلا عند عدم استعمالِ جمع قلَّةٍ غالباً، وههنا فلفظُ جمع القلَّةِ موجودٌ، وهو » أَقْرَاء «، فما الحكمةُ بالإِتيانِ بجمع الكثرةِ مع وجودِ جمعِ القلَّةِ؟.