قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ ﴾ كقوله :﴿ مَا نَنسَخْ ﴾ [ البقرة : ١٠٦ ] ﴿ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ ﴾ [ البقرة : ١٩٧ ] وقد تقدَّم. وأيضاً تقدَّم الكلام في مادة « نَذَرَ » في قوله :﴿ أَأَنذَرْتَهُمْ ﴾ [ البقرة : ٦ ]، إلاَّ أنَّ النَّذر له خصوصيَّة : وهو عقد الإنسان ضميره على شيءٍ، يقال : نذر ناذرٌ؛ قال عنترة :[ الكامل ]

١٢٣٣ب- الشَّاتِمَيْ عِرْضِي وَلَمْ أَشْتِمْهُمَا والنَّاذِرَيْنِ إِذَا لَم الْقَهُمَا دَمِي
وأصله من التَّخويف تقول أنذرت القوم إنذاراً بالتخويف، وفي الشرع على ضربين : مفسر : كقوله للهِ عليَّ عَتْق رَقَبةٍ، ولِلَّهِ عليَّ حجٌّ فهاهنا يلزم الوفاء، ولا يجزيه غيره، وغير مفسَّر كقوله : نذرت لله تعالى ألاَّ أفعل كذا، ثم يفعله، أو يقول : لله عليَّ نذرٌ، ولم يسمِّه، فيلزمه كفارة يمينٍ؛ لقوله - ﷺ - :« َمَنْ نَذَرَ نَذْراً، وسَمَّى فَعَلْيهِ ما سمَّى، ومَنْ نَذَرَ نَذْراً، ولَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارةُ يَمِينٍ ».
قوله :﴿ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ ﴾ جواب الشرط؛ إن كانت « ما » شرطيةً، أو زائدة في الخبر، إن كانت موصولة.
فإن قيل : لم وحَّد الضمير في « يَعْلَمُه » وقد تقدم شيئان النفقة، والنذر؟
فالجواب أن العطف هنا ب « أو »، وهي لأحد الشيئين، تقول :« إنْ جاء زيدٌ، أو عمروٌ أكرمتُه »، ولا يجوز : أكرمتها، بل يجوز أن تراعي الأول نحو : زيدٌ أو هندٌ منطلقٌ، أو الثاني، نحو : زيدٌ أو هندٌ منطلقة، والآية من هذا، ولا يجوز أن يقال : منطلقان. ولهذا أوَّل النحاة :﴿ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا ﴾ [ النساء : ١٣٥ ] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ومن مراعاة الأول قوله :﴿ وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا ﴾ [ الجمعة : ١١ ]، على هذا لا يحتاج إلى تأويلات ذكرها المفسرون. وروي عن النَّحاس أنه قال : التقدير : وما أنفقتم من نفقةٍ، فإنَّ الله يعلمها، أو نذرتم من نذر، فإنَّ الله يعلمه، فحذف، ونظَّره بقوله تعالى :﴿ والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا ﴾ [ التوبة : ٣٤ ] وقوله :[ المنسرح ]
١٢٣٤- نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ
وقول الآخر في هذا البيت :[ الطويل ]
١٢٣٥- رَمَانِي بأَمْرٍ كُنْتُ مِنْه وَوَالِدِي بَرِيئاً وَمِنْ أَجْلِ الطَوِيِّ رَمَانِي
وهذا لا يحتاج إليه؛ لأنَّ ذلك إنما هو في الواو المقتضية للجمع بين الشيئين، وأمَّا « أَوْ » المقتضية لأحد الشيئين، فلا. وقال الأخفش : الضمير عائدٌ إلى الأخير كقوله :﴿ وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً ﴾ [ النساء : ١١٢ ] وقيل : يعود إلى « ما » في قوله :« وَمَا أَنْفَقْتُمْ » لأنها اسمٌ كقوله :﴿ وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ [ البقرة : ٢٣١ ]، ولا حاجة إلى هذا أيضاً؛ لما عرفت من حكم « أو ».
قوله :﴿ فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ ﴾ أفاد : الوعد العظيم للمطيعين، والوعيد الشديد للمتمردين، لأنه يعلم ما في قلب المتصدق من الإخلاص فيتقبل منه تلك الطاعة؛ كما قال :


الصفحة التالية
Icon