قوله تعالى :﴿ يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي ﴾ : الجمهور على التخفيف في الفعلين من : مَحَقَ، وأربى. وقرأ ابن الزبير : ورويت عن رسول الله - ﷺ - « يُمْحِّقُ، ويُرَبِّي » بالتشديد فيهما.
والمحق : النقص، يقال : محقته فانمحق، وامتحق؛ ومنه المحاق في القمر؛ قال :[ البسيط ]
١٢٦١- يَزْدَادُ حَتَّى إِذَا مَا تَمَّ أَعْقَبَهُ | كَرُّ الجَدِيدَيْنِ نَقْصاً ثُمَّ يَنْمَحِقُ |
١٢٦٢- وَأَمْصَلْتُ مَالِي كُلَّهُ بِحَيَاتِهِ | وَمَا سُسْتَ مِنْ شَيْءٍ فَرَبُّكَ مَاحِقُهْ |
وقد اشتملت هذه الآية على نوعين من البديع :
أحدهما : الطِّباق في قوله :« يَمْحَقُ، ويُرْبِي » فإنهما ضدَّان، نحو :﴿ أَضْحَكَ وأبكى ﴾ [ النجم : ٤٣ ].
والثاني : تجنيس التغاير في قوله :« الرِّبا، ويُرْبي » إذ أحدهما اسم والآخر فعل.
فصل في بيان وجه النَّظم
لما كان الداعي إلى فعل الرِّبا، تحصيل الزيادة، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقص الخيرات - بيَّن تعالى - ها هنا - أنَّ الربا وإن كان زيادةً، فهو نقصانٌ في الحقيقة، وأن الصدقة وإن كانت نقصاً في الصورة، فهي زيادةٌ في المعنى، فلا يليق بالعاقل أن يلتفت إلى ما يقضي به الطبع، والحسُّ من الدواعي والصَّوارف؛ بل يعوِّل على ما ندبه الشرع إليه؛ فهذا وجه النظم.
فصل
اعلم أن محق الربا، وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا، وأن يكون في الآخرة.
أما محق الربا في الدنيا فمن وجوه :
أحدها : أنَّ الغالب في المربي - وإن كثر ماله - أن تؤول عاقبته إلى الفقر وتزول البركة عن مالح؛ قال - ﷺ - :« الرِّبا وَإِنْ كَثُرَ فإنَّ عَاقِبتَهُ تَصِيرُ إِلى قلٍّ ».
وثانيها : أنه وإن لم ينتقص ماله، فإن عاقبته الذَّمُّ والنقص، وسقوط العدالة، وزوال الأمانة، وحصول اسم الفسق، والقسوة، والغلظة.
ثالثها : أنَّ الفقراء الذين يشاهدون أنه أخذ أموالهم بسبب الربا، يلعنونه، ويبغضونه، ويدعون عليه؛ وذلك يكون سبباً لزوال الخير، والبركة عنه في نفسه وماله.
الرابع : أنه متى اشتهر بين الناس بأنه إنما جمع ماله من الرِّبا، توجهت إليه الأطماع، وقصده كلُّ ظالمٍ، ومارقٍ وطمَّاعٍ، ويقولون : إنَّ ذلك المال ليس له في الحقيقة، فلا يترك في يده.
وأمَّ أن الربا سبب للمحق في الآخرة فمن وجوهٍ :
أحدها : قال ابن عباس : معنى هذا المحق : أن الله تعالى لا يقبل منه صدقةً، ولا جهاداً ولا حجّاً، ولا صلة رحم.
ثانيها : أن مال الدنيا لا يبقى عند الموت، ويبقى عليه التبعة، والعقوبة، وذلك هو الخسار الأكبر.
وثالثها : ثبت في الحديث : أنَّ الأغنياء يدخلون الجنَّة بعد الفقراء بخمسمائة عامٍ، فإذا كان الغِنَى من الحلال كذلك، فما ظنُّك بالغنى من الحرام المقطوع به فذلك هو المحق والنقصان!
وأمَّا « إِرْبَاءُ الصدقاتِ » فيحتمل - أيضاً - أن يكون في الدنيا، وأن يكون في الآخرة.