في كيفية النَّظم وجوهٌ :
الأول : لما بيَّن في الآيةِ المتقدِّمة كمال المُلْكِ والعلم والقُدرةِ له - تعالى -، وأنَّ ذلك يوجب كمال صفة الرُّبُوبيَّة، أَتْبَع ذلك ببيان كون المؤمن في نهاية الانقياد والطَّاعة والخُضُوع لله - تعالى -، وذلك هو كمالُ العُبُوديَّة.
الثاني : أنه - تعالى - لَمَّا قال :﴿ إِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله ﴾ [ البقرة : ٢٨٤ ] وبيَّن أنه لا يخفى عليه من سِرِّنا وجهرنا شيءٌ أَلبتَّة، ذكر عقيب ذلك ما يَجْرِي مُجْرَى المَدْحِ لنا؛ فقال :﴿ آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون ﴾ كأنَّهُ بفضله يقول : عبدي، أنا وإن كُنْتُ أعلم جميع أحوالِك، فلا أَذكُرُ مِنها إِلاَّ ما يكون مدحاً لك، حتى تَعْلَمَ أَنِّي الكامِلُ في العِلم والقُدْرَة، فأنا كامِلٌ في الجُودِ والرَّحْمَةِ، وفي إِظهارِ الحسناتِ، وفي السَّتْرِ على السَّيِّئَاتِ.
الثالث : أنه بَدَأَ السُّورة بمدح المُتَّقين ﴿ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [ البقرة : ٣ ] بيَّن في آخر السُّورة أنَّ الَّذِين مدحهُم في أوَّل السُّورة هم أُمَّةُ محمَّدٍ - ﷺ - فقال :﴿ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملاائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ ﴾ وهذا هو المراد بقوله في أَوَّل السُّورة :﴿ يُؤْمِنُونَ بالغيب ﴾ [ البقرة : ٣ ]، ثم قال هَهُنا ﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير ﴾ وهو المراد بقوله أَوَّل السُّورة :﴿ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ [ البقرة : ٤ ] ثم حكى عنهم هَهُنَا كيفيَّة تضرُّعِهِمِ في قولهم :﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ... ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] إلى آخر السُّورَة، وهو المراد بقوله أَوَّل السورة :﴿ أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون ﴾ [ البقرة : ٥ ].

فصلٌ في بيان سبب النُّزُول


قال القرطبيُّ : سبب نزول هذه الآية : الآيةُ الَّتِي قبلها، وهو قوله :﴿ وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله ﴾ [ البقرة : ٢٨٤ ] فإنه لمَّا نزل هذا على النَّبيِّ صلى الله عليه سولم اشتدَّ ذلك على أصحابِ رسُولِ الله - ﷺ - فَأَتَوا رَسُولَ اللهِ - ﷺ - ثم بَرَكُوا على الرُّكب، فقالوا : أي رسولَ اللهِ - ﷺ - إذْ كُلِّفْنَا من الأَعمالِ ما نُطِيق؛ الصَّلاة والصِّيام والجِهَادُ، وقد أُنزِل عليكَ هذه الآيُ ولا نُطِيقُهَا، فقال رسُول الله - ﷺ - :« أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الكِتَابَيْنِ من قَبْلِكُمْ : سَمِعنَا وعَصَيْنَا، بل قولُوا : سَمِعْنَا وأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ » فلما قَرَأَها القومُ وذَلَّت بها أنْفُسُهْم، أَنزَل اللهُ في إِثرها ﴿ آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ ﴾ إلى قوله :﴿ غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير ﴾ فلما فعلُوا ذلك، نسخَها اللهُ، فأنزلَ اللهُ


الصفحة التالية
Icon