لمَّا بيَّن دلائلَ التوحيدِ والنبوَّةِ، وصحة دينِ الإسلام، وذكر صفاتِ المخالفين، وشدةَ عنادِهم وغُرُورِهم، ثم ذكر وعيدَهم بجمعهم يوم القيامة، أمر رسوله - عليه السلام - بدعاءٍ وتمجيدٍ يخالف طريقةَ هؤلاءِ المعاندين.
قوله :« اللَّهُمَّ » اختلف البصريون والكوفيون في هذه اللفظةِ.
قال البصريون : الأصل : يا الله، فحُذِفَ حَرْفُ النداءِ، وعُوِّضَ عنه هذه الميمُ المشددة، وهذا خاصٌّ بهذا الاسم الشريف، فلا يجوز تعويضُ الميم من حرف النداء في غيره، واستدلوا على أنها عِوَضٌ من « يا » بأنهم لم يجمعوا بينهما إلا في ضرورة الشعر، كقوله :[ الرجز ]
١٣٧٨- وَمَا عَلَيْكِ أنْ تَقُولِي كُلَّمَا... سَبَّحْتِ أوْ هَلَّلْتِ يَا اللَّهُمَّ مَا
أُرْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا... فَإنَّنَا مِنْ خَيْرِهِ لَنْ نُعْدَمَا
وقَوْلِ الآخر :[ الرجز ]
١٣٧٩- إنِّي إذَا مَا حَدَث ألَمَّا... أقُولُ : يَا اللَّهُمَّ، يَا اللَّهُمَّا
وقال الكوفيون : الميم المشددة بَقِيَّةُ فِعْل محذوفٍ، تقديره : أمَّنَا بخير، أي : اقْصِدنا به، من قولك : أمَمْتُ زيداً، أي : قصدته، ومنه :﴿ ولاا آمِّينَ البيت الحرام ﴾ [ المائدة : ٢ ] أي : قاصديه، وعلى هذا فالجمع بين « يا » والميم ليس بضرورةٍ عندهم، وليست عوضاً منها.
وقد رَدَّ عليهمُ البصريون هذا بأنه قد سُمِعَ : اللهمَّ أمَّنا بخير، وقال تعالى :﴿ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً ﴾ [ الأنفالِ : ٣٢ ] فقد صرَّح بالمدعُوِّ به، فلو كانت الميمُ بقيةَ « أمَّنَا » لفسد المعنى، فبان بُطْلانهُ.
وهذا من الأسماء التي لزمت النداءَ، فلا يجوز أن يقع في غيره، وقد وقع في ضرورة الشعر كونه فاعلاً، أنشد الفرّاء :[ مخلّع البسيط ]
١٣٨٠- كَحَلْقَةٍ مِنْ أبِي دِثَارٍ... يَسْمضعُهَا اللَّهُمَ الْكُبَارُ
استعمله - هاهنا - فاعلاً بقوله : يسمعها.
ولا يجوز تخفيفُ الميم، وجوَّزه الفراء، وأنشد البيت : بتخفيف الميم؛ إذ لا يمكن استقامةُ الوزن إلا بذلك.
قال بعضهم : هذا خطأ فاحشٌ، وذلك لأن الميم بقية « أمَّنَا » - على رأي الفراء - فكيف يجوزه الفراء؟ وأجاب عن البيت بأن الرواية ليست كذلك، بل الرواية :[ مخلّع البسيط ]
١٣٨١-..................................... يَسْمَعُهَا لاَهُهُ الْكُبَارُ
قال شهابُ الدينِ :« وهذا لا يعارِض الرواية الأخرى؛ فإنه كما صحّت هذه صحت تلك ».
ورد الزّجّاج مذهب الفراء بأنه لو كان الأصل : يا الله آمَّنا للفْظِ به مُنَبِّهاً على الأصل، كما قالوا - في وَيلمِّهِ - : وَيْلٌ لأمِّهِ.
وردوا مذهب الفراءِ - أيضاً - بأنه يلزم منه جواز أن تقول : يا اللهم، ولما لم يَجُزْ ذلك علمنا فساد قولِ الفراءِ، بل نقول : كان يجب أن يكون حرف النداء لازماً، كما يقال : يا الله اغفر لي، وأجاب الفراء عن قول الزَّجَّاجِ بأن أصله - عندنا - أن يقال : يا الله أمَّنا - ومن يُنْكِر جوازَ التكلم بذلك-؟ وأيضاً فلأن كثيراً من الألفاظ لا يجوز فيها إقامةُ الفرع مُقامَ الأصل، ألا ترى أنَّ مذهب الخليل وسيبويه أن « ما أكرمه » معناه : شيء أكرمه، ثم إنه - قط - لا يُسْتَعْمَل هذا الكلام - الذي زعموا أنه هو الأصل - في معرض التعجُّب، فكذا هنا.