قوله :﴿ إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ ﴾ شرطٌ وجوابه، وكذلك قوله :﴿ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي ﴾ وهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب- كذا قوله أبو حيان. يعني من الغيبة في قوله :﴿ لِنتَ لَهُمْ ﴾ وقوله :﴿ لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ﴾ وقوله :﴿ فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر ﴾ قال شهاب الدين : وفيه نظر. وجاء قوله :﴿ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ ﴾ جواباً للشرطِ، وهو نفيٌ صريحٌ، وقوله :﴿ فَمَن ذَا الذي ﴾ -وهو متضمن للنفي- جوابٌ للشرط الثاني، تلطفاً بالمؤمنين، حيث صرح لهم بعدم الغلبة في الأول، ولم يصرح لهم بأنه لا ناصر لهم في الثاني بل أتى به في صورة الاستفهام -وإن كان معناه نفياً.
وقوله :﴿ فَمَن ذَا الذي ﴾ قد تقدم مثله في البقرة.
والهاء -في قوله :﴿ مِّنْ بَعْدِهِ ﴾ - فيها وجهان :
أحدهما -وهو الأظهر- : أنها تعود على « الله » تعالى، وفيه احتمالانِ :
الأول : أن يكون ذلك على حذف مضاف، أي : من بعد خذلانه.
الثاني : إنه يحتاج إلى ذلك، ويكون معنى الكلامِ : إنكم إذا جاوزتموه إلى غيره، -وقد خذلكم- فمن يجاوزه إليه وينصركم؟
ثانيهما : أن يعود على الخذلان المفهوم من الفعلن وهو نظيرُ قوله :﴿ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى ﴾ [ المائدة : ٨ ].
قوله :﴿ إِن يَنصُرْكُمُ الله ﴾ يعنكم ويمنعكم من عدوكم ﴿ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ ﴾ مثل يوم بدر ﴿ وَإِن يَخْذُلْكُمْ ﴾ يترككم كما أن بأُحُدٍ- لم ينصركم أحَدٌ. والخذلان : القعود عن النصرة. قراءة الجمهور ﴿ يَخْذُلْكُمْ ﴾ -بفتح الياء- من خَذَله -ثلاثياً-.
وقرا عمرو بن عبيد :« يُخْذِلْكُم » -بضم الياء- من أخْذَلَ -رباعياً- والهمزة فيه لجعل الشيء، أي : إن يجعلكم مخذولين، والخّذْل والخُذلان -ضد النصر- وهو ترك من يظن به النُّصرة، وأصله من خَذَلَت الظبيةُ ولدَها -إذا تركته منفرداً- ولهذا قيل لها : خاذل ويقال للولدِ المتروك -أيضاً- : خاذل، وهذا النَّسَبِ، والمعنى : أنَّها مخذولة.
قال الشاعرُ :[ البسيط ]

١٦٨١- بِجِيدِ مُغْزِلَةٍ أدْمَاءَ خَاذِلَةٍ مِنَ الظِّبَاءِ تُرَاعِي شَادِناً خَرِقاً
ويقال له -أيضاً- : خذول، فعول بمعنى مفعول.
قال الشاعر :[ الطويل ]
١٦٨٢- خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَباً بِخَمِيلَةٍ تَنَاوَلُ اطْرَافَ الْبريرِ وتَرْتَدِي
ومنه يقال : تخاذلَتْ رجلا فلان.
قال الأعشى :[ الرمل ]
١٦٨٣- بَيْنَ مَغْلوبٍ كَريمٍ جَدُّهُ وخَذُولِ الرَجْلِ مِنْ غَيْرِ كَسَحْ
ثم قال :﴿ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون ﴾ فقدم الجارّ إيذاناً بالاختصاص، أي : ليخص المؤمنون رَبَّهُم بالتوكل عليه والتفويض له؛ لعلمهم أنه لا ناصرَ لهم سواهُ. وهو معنى حَسَنٌ، ذكره الزمخشريُّ.

فصل


احتجوا -بهذه الآية- على الإيمانَ لا يحصل إلا بإعانة الله، والكفر لا يحصل إلا بخذلانه؛ لأن الآية دالةٌ على أن الأمر كلَّهُ للهِ.


الصفحة التالية
Icon