في اتَّصال هذه الآيةِ بما قَبْلَهَا وَجْهَان :
الأوَّل أنه اْعْتِرَاضٌ، وما قَبْلَ الآية مُتَّصلٌ بما بَعْدَهَا، والتَّقْدير : وإذا قيل لَهمُ : تعالَوْا إلى ما أنْزل اللهُ وإلى الرَّسُول رَأيْتَ المُنَافِقين يَصُدون صُدُوداً، ثُمَّ جاءُوك يَحْلَفُون باللهِ إن لأردْنَا إلاَّ إحساناً وتوْفِيقاً، يعني : أنَّهُم في أوَّلِ الأمْر يصُدُّون عنك، ثم بَعْدَ ذلك يَجيئُونَك، ويَحْلِفُون باللهِ كَذِباً أنَّهُم ما أرَادُوا بِذَلِكَ إلا الإحْسَانَ والتَّوْفِيق، وشرط الاعتراضِ أن يَكُونَ لَهُ تَعَلُّق بذلك الكلامِ من بَعْضِ الوُجُوه؛ كقوله :[ السريع ]

١٨١٨- إنَّ الثَّمَانِينَ وَبُلِّغْتَهَا قَدْ أحْوَجَتْ سَمْعِي إلى تَرْجُمَانْ
فقوله :« وبُلِّغْتَهَا » [ كلامٌ ] أجْنَبِيٌّ اعْتَرِض به، لكنه دُعَاء للمُخَاطَبِ، وتَلَطُّفٌ في القَوْلِ مَعَهُ، وكذلك الآية؛ لأن أوّل الآيةِ وآخِرَهَا في شَرْحِ قبائِح المُنافقِين وكَيْدهم ومَكْرهم، فإنه -تعالى- حكى عنهم أنَّهُم يَتَحَاكمُون إلى الطَّاغُوتِ، مع لأنَّهم أمِرُوا بالكُفْرِ به، ويَصُدُّون عن الرَّسُول، مع أنَّهم أمِروا بطاعته، فذكر هُنَا ما يَدُلُّ على شِدَّة الأهْوَالِ عَلَيْهِم؛ بِسَبب هذه الأعْمَال القَبِيحَة في الدُّنْيَا والآخِرَةِ، فقال :﴿ فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ أي : فَكَيْفَ حالُ تِلْك الشِّدَّةِ وحَالُ تِلْك المُصِيبَةِ، قاله الحسن البَصْرِيّ، وهو اخْتِيَار الوَاحِدِيّ.
الثاني : لأنه -تعالى- لما حَكَى عنهُم تحاكُمَهُم إلى الطَّاغُوت، وفِرارِهم من الرَّسُول -E- دلَّ ذلك على شِدَّة نَفْرتهم من الحُضُورِ عندَ رسُول اللَّهِ والقُرْبِ مِنْهُ، فلمَّا ذكر ذَلِكَ، قال :﴿ فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ﴾ يَعْني : إذا كانَت نَفْرتُهُم من الحُضُورِ عند الرسول في أوْقَاتِ السَّلامةِ هكذا، فكَيْفَ يكُون حَالُهُم في النُّفْرَة في شِدَّة الغمِّ والحُزْن، إذا أتَوُا بجنَايَةٍ خافُوا بسَبَبِها مِنْك، ثم جَاءُوك شَاءُوا أم أبَوْا، ويَحْلِفُونَ باللَّه كَذِباً ما أردْنا بتلك الجِنَايَة إلاَّ الخَيْر والمَصْلَحَة، والغَرَضُ من هَذا الكلامِ : بَيَانُ أنَّ نَفرتَهُم عن الرَّسُول لا غاية لَهَا سواءٌ غابُوا أم حَضَرُوا، ثم إنه -تعالى- أكَّدَ هذا المَعْنَى بقوله :﴿ أولئك الذين يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ ﴾ ومعناه : أنَّ من أرادَ المُبَالَغَة في شَيْءٍ، قال : هذا شَيْءٌ لا يَعْلَمُهُ إلا اللَّه يعني : لكَثْرَتهِ وقُوَّتِه لا يقْدرِ أحَدٌ على مَعْرَفَتهِ إلا اللَّه - [ تعالى ] -.
قوله :﴿ فَكَيْفَ ﴾ يجوز فيها وَجْهَان :
أحدهما : أنَّها في مَحَلِّ نَصْبٍ، وهو قول الزَّجَّاج؛ قال : تقديره : فكَيْفَ تَرَاهُم؟
والثاني : أنها في مَحَلِّ رفع خبرٍ لمُبْتَدأ مَحْذُوف، أي : فكيْف صنيعُهُم في وَقتِ إصَابَة المُصِيبَةِ إيَّاهُم؛ وإذا مَعْمُولَةٌ لذلك المُقَدَّر بَعْد كَيْف، والبَاءُ في « بِهَا » للسَّببيَّة، و « مَا » يجوز أن تكون مَصْدَرِيَّة أو اسْمِيَّة، والعَائدُ مَحْذُوف.

فصل في المقصُود بالمُصِيبَة في الآية


قال الزَّجَّاج :[ المراد ] بالمُصِيبَة : قَتْل صَاحِبهم الَّذِي أقَرَّ أنَّه لا يَرْضَى بِحُكْم الرَّسُول -E-، جَاءُوا إلى النَّبي ﷺ وطالَبُوا عُمَر بِهِ، وحَلَفُوا أنَّهُم ما أرَادُوا بالذَّهَاب إلى غير الرَّسُول إلا الخَيْرَ والمَصْلَحة.


الصفحة التالية
Icon