هذا استفْهام يرادُ به التَّحْرِيض، والأمر بالجِهَاد على سَبيلِ الوُجُوب، ومعناه : أنَّه لا عُذْر لَكُمْ في تَرْكِ المُقَاتلةِ، وقد بَلَغَ حال المُسْتَضْعَفِين من الرِّجَال والنِّسَاءِ والولْدَانِ من المُسْلِمِين إلى ما بلغ في الضَّعْفِ، فهذا الحَثُّ شديدٌ، وبيان العِلَّة التي صَار القِتَالُ لِهَا وَاجِباً، وهو مَا فِي القِتَال من تَخْلِيص هَؤلاء المُؤمِنين من لأيْدِي الكَفَرَة؛ لأنَّ هذا يَجْمَعُ مع الجِهَادِ ما يَجْرِي مُجْرى فكاك الأَسِير.
و « ما » : مبتدأ، و « لكم » خَبَرُه، أي : أيّ شَيْءٍ استقرَّ لكم، وجُمْلَة قوله :« لا تقاتلون » فيها وجْهَان :
أظهرُهُمَا : أنها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ، أي : مَا لَكُمْ غير مُقاتِلِين، أنكر عليهِمْ أن يُكُونُوا على غير هذه الحَالَةِ، وقد صرَّح بالحَالِ بعد هذا التركيب في قوله :﴿ فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ ﴾ [ المدثر : ٤٩ ] وقال في مثل هذه الحال : إنَّها لازمة؛ لأنَّ الكلام لا يتمُّ دونَها، وفيه نَظَرٌ، والعَامِل في هذه الحالِ، الاستقرار المقدَّر؛ كقولك : ما لك ضاحِكاً.
والوجه الثاني : ان الأصل :« وما لكم في ألا تقاتلوا » فَحُذِفَت « في » فبقي « ألا تقاتلوا » فجرى فيها الخِلاف المَشْهُور، ثم حُذِفَت « أنْ » النَّاصِبَة، فارْتَفَعَ الفِعْل بَعْدَهَا؛ كقولهم : تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خَيرٌ من أنْ تَرَاهُ، وقوله :[ الطويل ]
١٨٣٠- أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الْوَغَى | ............................ |
فصل
قالت المُعتزلة : قوله :﴿ وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله ﴾ إنكار عليهم في تَرْكِ القِتَالِ، وبَيَان أن لا عُذْر ألْبَتَّة في تركه، ولو كان فِعْل العَبْد، بخلق الله- تعالى-، لبطل هذا الكلام؛ لأن من أعْظَم العُذْر أنَّ الله ما خَلَقَهُ وما أرادَهُ، وما قَضَى به، وجوابُه مذكورٌ.
قوله :« والمستضعفين » فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه مَجْرورُ عطفاً [ على اسْمِ الله، أي : وفي سَبيلِ المُسْتَضْعَفين.
والثاني : وإليه ذَهَبَ الزجاج والمَبرِّد أن يكون مَجْرُوراً عطفاً ] على نَفْسِ « سَبِيل ». قال أبو البَقَاء بعد أن حَكَاهُ عن المُبَرِّد وحده : لأن سَبِيل الله عامٌّ في كل خير؛ وخلاص المُسْتَضْعَفِين من المسْلِمِين من أيدي الكُفَّار من أعْظَم الخيور. والجُمْهُورُ على :« والمستضعفين » بواو العَطْفِ.
وقرأ ابن شهاب :« في سبيل الله المستضعفين » وفيها تخريجان :
أحدهما : أن يكُونَ حَرْفُ العَطْفِ مقدراً؛ كقولهم :« أكلت لَحْمَاً تَمْراً سَمَكاً ».
والثاني : أن يكونَ بَدَلاً من « سبيل الله » أي : في سَبِيل الله سبيلِ المُسْتضْعَفِين؛ لأنَّ سَبِيلَهم سَبِيلُ الله - تعالى-.
قوله :﴿ مِنَ الرجال ﴾ فيه وجهان :
أحدهما : أنه حالٌ من المُسْتضْعَفين.
والثاني : أن « مِنْ » لِبَيَان الجنس، و « الولدان » : قيل : جَمْع « وليد » ؛ وهم المُسْلِمُون الَّذِين بَقُوا بمكَّة لصدِّ المُشْرِكين، أو ضعفهم عن الهَجْرَة مستنزلين ممتنعين.