في اتَّصال هذه الآية بما قَبْلَها وَجْهَان :
أحدُهما : أنَّها مُتِّصِلةٌ بقوله :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط ﴾ [ النساء : ١٣٥ ] لأن الإنْسان لا يكون قَائِماً بالقِسْط، إلا إذا كان راسخاً في الإيمان بالأشْيَاء المَذْكُورة في هَذِه الآيَة.
الثاني : أنه - تعالى - لمَّا بين الأحْكَام الكَثِيرة في هَذِه السُّورة، ذكر عَقِيبَهَا الأمر بالإيمانِ، وفي هذا الأمْر وُجُوه :
أحدُها : قال الكَلْبِيُّ، عن أبِي صَالح، عن ابن عبَّاسٍ : نزلت هذه الآيَة في عَبْد اللَّه ابن سلام، وأسد وأسَيْد ابْنَيْ كَعْب، وثَعْلَبَة بن قَيْس، وسلام ابن أُخْت عَبْد الله بن سلام، وسلَمة ابن أخِيه، ويامِين بن يَامِين، فَهُؤلاء مُؤمِنُوا أهْل الكِتَاب أتوا رسُول اللَّه ﷺ، فقالوا : إنَّا نُؤمِنُ بك، وبِكتابِك، وبِمُوسى، [ والتَّوْرَاة ] وبِعُزَيْر، ونكفر بما سِوَاه من الكُتُب والرُّسُل، فقال لهم النَّبِي ﷺ :« بل آمِنُوا باللَّه، ورسُوله محمَّد، والقُرْآن، وبكل كِتَابٍ قَبْلَه » فقالوا : لا نَفْعَل «، فأنزل اللَّه :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ ﴾ يعني : بمحمّد [ والقُرآن ] وبموسى والتَّوْرَاة، ﴿ آمنوا بالله ورسوله ﴾ : محمد ﴿ والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ ﴾ : من التَّوْراة، والإنْجِيل، والزَّبُور، وسائر الكُتُب؛ لأن المراد بالكِتَاب الجنس.
وقيل : الخِطَاب مع المُنَافِقِين، والتَّقْدير : يأيُّهَا الذين آمَنُوا باللِّسان، آمنوا بالقَلْب، ويؤيده قوله - تعالى - :﴿ مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ﴾ [ المائدة : ٤١ ].
وقيل : خِطَاب مع الَّذِين آمَنُوا وَجْه النَّهَار، وكَفَرُوا آخِره، والتقدير : يأيُّهَا الَّذِين آمَنُوا وجْه النَّهارِ، آمنوا آخِره.
وقيل : الخطاب للمُشْرِكين، تقديره : يأيُّها الذين آمَنُوا باللاَّتِ والعُزَّى، آمِنُوا.
وقيل : المعنى : يأيها الذين آمَنُوا، دُومُوا على الإيمان، واثْبُتُوا عليْه، أي : يأيُّها الذين آمَنُوا في المَاضِي والحَاضِر، آمِنُوا في المُسْتَقْبَل؛ كقوله :﴿ فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلأ الله ﴾ [ محمد : ١٩ ] مع أنه كان عَالِماً بذلك.
وقيل : المُراد ب »
الذين آمَنُوا « : جميع النَّاس، وذلك يوم أخذ عَلَيْهم المِيثَاق.
وقيل : يا أيُّها الَّذِين آمَنُوا على سبيل التَّقْلِيدِ، آمِنُوا على سبيل الاسْتِدْلاَل.
وقيل : يا أيها الَّذِين آمَنُوا بِحَسَب الاسْتِدْلاَلات الإجْمَاليَّةِ، آمِنُوا بحسَبِ الدَّلائل التَّفْصيليَّة.
وقرأ نافعُ والكوفيون :»
والكتاب الَّذِي نزَّل على رَسُوله والكِتَاب الذي أنْزل من قبل « على بناء الفِعْليْن للفَاعِل، وهو الله - تعالى -، [ وابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو :] على بنائهما للمَفْعُول، والقائمُ مقامَ الفَاعِل ضَمِير الكِتَاب.
وحُجَّة الأوَّلِين : قوله - تعالى - :﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر ﴾ [ الحجر : ٩ ]، وقوله ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر ﴾ [ النحل : ٤٤ ]، وحجة الضم : قوله - تعالى - :﴿ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ﴾ [ النحل : ٤٤ ]، وقوله :﴿ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ [ مِّن رَّبِّكَ بالحق ] ﴾ [ الأنعام : ١١٤ ].
قال بعض العلماء : كلاهما حَسَن، إلا أن الضَّمَّ أفْخَمُ، كقوله :﴿ وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ ﴾ [ هود : ٤٤ ].
وقال الزَّمَخْشَرِيُّ : فإن قُلْتَ [ لِمَ ] قال :﴿ نَزَّلَ على رَسُولِهِ ﴾، و ﴿ أَنَزلَ مِن قَبْلُ ﴾ ؟.


الصفحة التالية
Icon