لما ذكر فَضَائِح اليَهُود وقبحَ أفْعَالِهِم، وأنَّهم قَصَدُوا قَتْل عِيسَى ﷺ، وأنَّه لم يَحْصُل لهم ذَلِكَ المَقْصُود، وأنَّ عيسى - عليه السلام - حَصَل له أعْظَمُ المَنَاصِبِ، بَيَّن أن هؤلاء اليهُود الذين بَالَغُوا في عَدَاوَتِهِ، لا يَخْرُجُ أحَدٌ مِنْهُم من الدُّنْيَا إلا بَعْدَ أن يُؤمِنَ به، فقال :﴿ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ﴾، « إنْ » هنا نافيةٌ بمعنى « مَا »، و « مِنْ أهْلِ » يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أنه صفة لمبتدأ محذوف، والخبرُ الجملةُ القسمية المحذوفة وجوابها، والتقدير : وما أحدٌ من أهل الكتاب إلاَّ واللَّهِ ليُؤمِننَّ به، فهو كقوله :﴿ وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ ﴾ [ الصافات : ١٦٤ ]، أي : ما أحدٌ مِنَّا، وكقوله :﴿ وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا ﴾ [ مريم : ٧١ ] أي : مَا أحَدٌ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُها، هذا هو الظاهر.
والثاني - وبه قال الزمخشري وأبو البقاء - : أنه في محلِّ الخبر، قال الزمخشري :« وجملة » لَيُؤْمِنَنَّ به « جملةٌ قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف، تقديره : وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتاب أحَدٌ إلاَّ ليُؤمِنَنَّ بِهِ، ونحوه :﴿ وما منا إلا له مقام معلوم ﴾ ﴿ وإن منكم إلا واردها ﴾، والمعنى :» وما من اليهود أحَدٌ إلاَّ ليُؤمنَنَّ «، قال أبو حيان :» وهو غلطٌ فاحشٌ؛ إذ زعم أن « لَيُؤْمِنَنَّ بِه » جملة قسمية واقعةٌ صفةً لموصوف محذوف إلى آخره، وصفة « أحَد » المحذوف إنما الجار والمجرور؛ كما قَدَّرناه، وأمَّا قوله :« لَيُؤْمِنَنَّ بِه »، فليستْ صفةً لموصوف، ولا هي جملة قسمية، إنما هي جملة جواب القَسَم، والقسم محذوفٌ، والقسمُ وجوابُه خبر للمبتدأ، إذ لا ينتظم من « أحَد »، والمجرور إسناد؛ لأنه لا يفيد، وإنما ينتظم الإسنادُ بالجملة القسمية وجوابها، فذلك هو مَحَطُّ الفائدةِ، وكذلك أيضاً الخبرُ هو ﴿ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ ﴾، وكذلك « إِلاَّ وَارِدُهَا » ؛ إذ لا ينتظم مما قبل « إلاَّ » تركيب إسناديٌّ «. [ قال شهاب الدين ] وهذا - كما تَرَى - قد أساء العبارة في حق الزمخشريِّ؛ بما زعم أنه غلط، وهو صحيح مستقيم، وليت شعري كيف لا ينتظم الإسنادُ من » أحَد « الموصوفِ بالجملة التي بعده، ومن الجارِّ قبله؟ ونظيرُه أن تقول :» مَا فِي الدَّارِ رَجُلٌ إلاَّ صَالِحٌ « فكما أن » فِي الدَّار « خبر مقدَّم، و » رَجُلٌ « مبتدأ مؤخر، و » إلاَّ صَالِحٌ « صفته، وهو كلامٌ مفيد مستقيمٌ، فكذلك هذا، غايةُ ما في الباب أنَّ » إلاَّ « دخلت على الصفة؛ لتفيدَ الحصْر، وأما ردُّه عليه حيث قال : جملةٌ قسميَّة، وإنما هي جوابُ القسَم، فلا يَحْتاجُ إلى الاعتذار عنه، ويكفيه مثلُ هذه الاعتراضاتِ.


الصفحة التالية
Icon