لما تكلَّمَ أوَّلاً على أباطيلِ اليهُودِ، ثم تكلَّم ثانياً على أباطيلِ النَّصَارى، وأقَامَ الدَّلائل على بُطْلانِها وفسادِهَا، فعند هذا خاطب مجمُوعَ الفريقَيْنِ، فقال تعالى :﴿ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ ﴾، أي : لا تتجاوَزُوا الحَدَّ، والغُلُوَّ نَقيضُ التَّقْصِير، ومعْنَاهُ : الخُرُوجُ عَنِ الحَدِّ.
قوله تعالى :« غَيْرَ الحَقِّ » : فيه خمسة أوجه :
أحدها : أنه نعت لمصدر محذوف، أي : لا تَغْلُوا في دينكُمْ غُلُوًّا غَيْرَ الحقِّ، أي : غُلُوًّا باطلاً، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره.
الثاني : أنه منصوبٌ على الحال من ضمير الفاعلِ في « تَغْلُوا »، أي : لا تَغْلُوا مُجاوِزينَ الحَقَّ، ذكره أبو البقاء.
الثالث : أنه حالٌ من « دينكُمْ »، أي : لا تغلُوا فيه وهو باطلٌ، بل اغْلُوا فيه وهُوَ حَقٌّ؛ ويؤيِّد هذا ما قاله الزمخشريُّ؛ فإنه قال :« لأنَّ الغُلُوَّ في الدين غُلُوَّانِ : حقٌّ؛ وهو أنْ يُفْحَصَ عن حقائقه، ويُفَتَّشَ عن أباعدِ معانيه، ويُجْتَهَد في تحصيله حُجَجه، وغُلُوٌّ باطلٌ؛ وهو أن يتجاوز الحقَّ ويتخطَّاه بالإعْرَاضِ عن الأدلَّة ».
الرابع : أنه منصوبٌ على الاستثناء المتَّصل.
الخامس : على الاستثناء المنقطع، ذكر هذين الوجهين أبو حيان عن غيره، واستبعدَهُما؛ فإنه قال :« وأبعد من ذهب إلى أنها استثناءٌ متَّصِلٌ، ومن ذهب إلى أنها استثناءٌ منقطعٌ، ويقدِّره ب » لَكِنَّ الحقَّ فاتَّبِعُوهُ « قال شهاب الدين : والمستثنى منه يَعْسُرُ تعيينُه، والذي يظهر فيه : أنه قوله تعالى :» في دينكُمْ « ؛ كأنه قيل : لا تَغْلُوا في دينكُم إلا الدِّينَ الحقَّ، فإنه يجوز لكم الغلوُّ فيه، ومعنى الغلُوِّ فيه ما تقدَّم من تقرير الزمخشريِّ له.
وذكر الواحديُّ فيه الحالَ والاستثناء، فقال : وانتصابُ »
غَيْرَ الحَقِّ « من وجهين :
أحدهما : الحالُ والقَطْعُ من الدِّينِ؛ كأنه قيل : لا تَغْلُوا في دينِكُمْ مخالِفيَن للحَقِّ؛ لانهم خالَفُوا الحقَّ في دينهمْ، ثم غلوْا فيه بالإصْرارِ عليه.
والثاني : أن يكون منصوباٌ على الاستثناء، فيكون »
الحَقّ « مستثنًى من المَنْهِيِّ عن الغلوِّ فيه؛ بأنْ يجوزَ الغلوُّ فيما هو حقٌّ على معنى اتباعه والثبات عليه، وهذا نصٌّ كما ذكرنا من أنَّ المستثنى هو » دِينُكُمْ «.
وتقدَّم معنى الغُلُوِّ في سورة النساء [ الآية ١٧١ ] فظاهرُ هذه الأعاريب المتقدِّمةِ : أنَّ »
تَغْلُوا « فعلٌ لازمٌ، وكذا نصَّ عليه أبو البقاء، إلا أن أهل اللغةِ يفسِّرونهُ بمعنى متعدٍّ؛ فإنهم قالوا : معناه لا تتجَاوَزُوا الحدَّ، قال الراغب : الغُلُوُّ تجاوزُ الحَدِّ، يقال ذلك إذا كان في السِّعْرِ » غَلاَءً «، وإذا كان في القَدْرِ والمنزلةِ » غُلُوًّا «، وفي السهم » غَلْواً «، وأفعالها جميعاً غَلاَ يَغْلُو؛ فعلى هذا : يجوز أن ينتصب » غَيْرَ الحَقِّ « مفعولاً به، أي : لا تتجاوَزُوا في دينكُمْ غير الحقِّ، فإنْ فسَّرنا » تَغْلُوا « بمعنى تتباعَدُوا من قولهم :» غَلاَ السَّهْمُ «، أي : تباعدَ كان قَاصِراً، فيحتمل أن يكون من قال بأنه لازمٌ، أخذه من هذا لا من الأوَّل.


الصفحة التالية
Icon