لما قرر التَّوحْيد وأرْدَفَهُ بتَقْرير أمر النُّبُوَّةِ، وتكلَّم في بعض تفَاريع هذا الأصْل، عاد إلى ذِكْرِ الدَّلائل الدَّالةِ على وجُود الصَّانِع، وكمال قدرته، وحِكْمَتِه، وعلمه، تَنْبِيهاً على أنَّ المَقْصُودَ الأصْلِيَّ من جميع المَبَاحِثِ والعَقْلِيَّة، والنقلية : مَعْرِفَةُ الله بذاته، وصِفَاتِهِ، وأفعاله.
قوله :« فَالِقُ الحَبِّ » : يجوز أن تكون الإضافة مَحْضَةً، على أنَّها اسم فاعل بمعنى الماضي؛ لأنَّ ذلك قد كان، ويَدُلُّ عليه قراءة عبد الله :« فَلَقَ » فعلاً ماضياً، ويجُوز أن تكون الإضافةَ غير مَحْضَةٍ، على أنه بِمَعنْى الحال والاستقبال، وذلك على حِكَاية الحال؛ فيكون « الحَبِّ » مجرُورَ اللَّفْظِ منصوب المحلِّ، و « الفَلْقُ » : هو شَقُّ للشيء، وقيده الرَّاغب بإبَانَةِ بَعْضِه من بَعْص، والفَلَق المُطْمِئنُّ من الأرض بَيْن الرُّبُوَتين « والفَلَق » من قوله - تعالى - :﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق ﴾ [ الفلق : ١ ] : ما علَّمه الله لمُوسَى - عليه السَّلام- حتى فَلَق البَحْر له.
وقيل : الصُّبْح، وقيل : هي الأنْهَار المُشَار إليها بقوله - تعالى - :﴿ وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً ﴾ [ النمل : ٦١ ].
والفِلْقُ بالكَسْرِ بمعنى : المَفْلُوق كالنكث والنِّقْض، ومنه :« سَمِعْتُه من فِلْقٍ منه ».
وقيل : الفِلْقُ العَجَبُ [ وقيل : ما يُتَعَجَّبُ منه.
قال الرَّاجِز في ذلك :[ الرجز ]

٢٢٥٤- وَاعَجَباً لهذه الفَليقَهْ هَلْ تُذْهِبَنَّ القُوَباءَ الرِّيقَهُ ]
والفالِقُ والفَليق : ما بين الجَبَلَيْنِ، وما بَيْن السَّنَامَيْنِ البعير.
وفسَّر بعضهم « فالق » هنا، بمعنى :« خَالِق ».
قيل : ولا يُعْرَفُ هذا لُغَةً، وها لا يُلْتضفَتُ إليه؛ لأن هذا مَنْقُولٌ عن ابْن عباس، والضَّحَّاك أيضاً، لا يُقال ذلك على جِهَةِ التَّفْسير للتقريب؛ لأن الفرَّاء نقل في اللُّغَة : أن « فَطَرَ وخَلَقَ وفَلَقَ » بمعنى وَاحِد.
[ و « النَّوَى » ] : اسم جِنْس، مُفْرَد « نواة »، على حدّ « قَمْح وقَمْحَ »، والنَّوَى : البُعْد أيْضاً.
ويُقال : نوت البُسْرَةُ وأنْوَتْ، فاشتدَّت نَوَاتُهَا، ولام « النَّواة » بانقلاب عَيْنِها واواً والأكثر التَّغَاير.

فصل في معنى الآية


قال ابن عبَّاسن والضَّحَّاك، ومُقاتِل :« فالِقُ الحَبِّ والنَّوَى » : خَالِقُ الحَبِّ.
قال الواحدي : ذّهّبُوا ب « فالق » مَذهب « فاطر »، وقد تقدَّم عن الفرَّاءِ نَقْلُه ذلك لُغَةً.
وقال الحسن، وقتادة، والسُّدِّيُّ : معناه : الشَّق، أي : يشق الحَبَّة من السُّنْبُلَةِ، والنَّواة عن النَّخْلَةِ، فيخرجُهَا مِنها.
وقال الزَّجَّاج : يَشُقُّ الحبة اليَابِسَة، والنُّواة اليَابِسَة، فيُخْرِجُ منها وَرَقاً أخْضَرَ.
وقال مُجَاهد : يعني الشَّقَّيْنِ اللذين فيهما، أي : يَشُقُّ الحبَّ عن النَّباتِ، ويخرجُه مِنْهُ ويشقُّ النَّوَى عن النَّخْلِ، ويُخْرِجُهَا منها، و « الحب » جمع حبَّة «، وهو اسمٌ لجميع البُذُورِ والحُبُوب من البُرِّ، والشَّعير، والذُّرَة، وكل ما لَمْ يُؤكَل حَبَّا، كالتَّمْرِ والمشمشِ، والخوخ، ونَحْوها.


الصفحة التالية
Icon