لما شرع في إثبات النُّبُواتِ بدأ بِحِكَايَةِ شُبُهاتِ المنكرين لِنُبُوةِ محمد ﷺ.
الشُّبْهَةُ الأولَى : قولهم : يا محمد إن هذا القرآن الذي جئْتَنَا به كلامٌ تَستفِيدُهُ من مُدَارَسَةِ العلماء، وتُنَظِّمُهُ من عند نفسك، ثمر تقرؤه علينا، وتزعم أنه وَحْيٌ نُزِّلَ عليك من عند الله تعالى.
و « الكاف » في محلِّ نصب نَعْتٌ لمصدر محذوف، فقدَّرَهُ الزجاج : ونُصَرِّفَ الآياتِ مِثْلَ ما صَرَّفْنَاها فيما تُلِيَ عليكم، وقدَّره غيره : نُصَرِّفُ الآيات في غير هذه السُّورةِ تَصْرِيفاً مثل التصريف في هذه السورة.
والمراد بالتَّصْرِيفِ أنه - تبارك وتعالى - يأتي مُتَوَاتِرَة حالاً بعد حالٍ.
قوله :« ولِيَقُولُوا » الجمهور على كسر اللام كي، والفِعْلُ بعدها منصوب بإضمار « أن » فهو في تَأويل مصدر مَجْرُورٍ بها على ما عرف [ غير مرَّةٍ ]، وسماها أبو البقاء وابن عطية لام الصَّيْرُورةِ، كقوله تبارك وتعالى :﴿ فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً ﴾ [ القصص : ٨ ] وكقوله :[ الوافر ]
٢٢٧٩- لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا للخَرَابِ | .................... |
وجوَّز أبو البقاء فيها الوجهين؛ أعني كونها « لام » العاقبة، أو العلّة حقيقة، فإنه قال :« واللام لام العاقبة، أي : إن أمرهم يَصِيرُ إلى هذا ».
وقيل : إنه قَصَدَ بالتصريف أن يقولوا : درست عقوبة لهم، يعني : فهذه عِلَّةٌ صَرِيحَة، وقد أوضح بعضهم هذا، فقال : المعنى : يُصَرِّفُ هذه الدلائل حالاً بعد حالٍ ليقول بعضهم : دارست فيزادوا كُفْراً، وتَنْبِيهٌ لبعضهم فَيَزْدادُوا إيماناً، ونحو :﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً ﴾ [ البقر : ٢٦ ]
وأبو علي جعلها في بَعْضِ القراءات لام الصَّيْرُورَةِ، وفي بعضها لام العلّة؛ فقال : واللام في « ليقولوا » في قراءة ابن عامر، ومَنْ وافقه بمعنى : لئلاً يقولوا؛ أي : صُرِّفَت الآيات، وأحْكِمَتْ لئلا يقولوا : هذه أسَاطيرُ الأوَّلينَ قديمة قد بَلِيَتْ وتَكَرَّرَتْ على الأسْماع، واللام على سائر القراءاتِ لام الصَّيْرُورةِ.
قال شهاب الدين : قراءة ابن عامر دَرَسَتْ بوزن أكَلَتْ وسَرَقَتْ فعلاً ماضياً مسنداً لضمير الآيات، وسيأتي تحقيق القراءات في هذا الكلمة مُتَواتِرِهَا وشَاذِّهَا.
قال أبو حيَّان :« وما أجَازَهُ من إضمار » لا « بعد اللام المضمر بعدها » أنْ « هو مذْهَبٌ لبعض الكوفيين، كما أضمروها بعد » أنْ « المُظْهَرَة في ﴿ أَن تَضِلُّواْ ﴾ [ النساء : ١٧٦ ] ولا يجيز البَصْرِيُّونَ إضْمَارَ » لا « في القَسَمِ على ما تَبَيَّنَ فيه ».
ثم هذه « اللام » لا بد لها من مُتعلِّقٍ، فقدَّرَهُ الزمخشري وغيره مُتَأخِّراً، قال الزمخشري :« وليقولوا » جوابه مَحْذُوف، تقديره : وليقولولا دَرَسَتْ تُصَرِّفُهَا.
فإن قلت : أيُّ فَرْقٍ بين اللاَّمَيْنِ في « ليقولوا » و « لنُبَيِّنَهُ » ؟
قال شهاب الدين : الفَرْقُ بينهما أن الأولَى مَجَازٌ، والثانية حَقيقَةٌ، وذلك أن الآيات صُرِفَت للتبيين، ولم تُصْرَفْ ليقولوا : دارست، ولكن لأنه لمَّا حَصَلَ هذا القولُ بتصريف الآيات كما حَصَلَ للتَّبْيينِ شبِّه به فسِيقَ مَسَاقَةُ.