اعلم أنه - تعالى - لما جعل مدار هذا الكتاب الشَّريف على تقرير التَّوْحيد والنبوة والمعاد، وإثبات القضاء والقدر، وإنه تبارك وتعالى- بالغ في تَقْرِير هذه الأصُول، ثم شرح أحْوَال السُّعداء والأشْقِياء وانْتَقَل إلى تهْجِين طَريِقَة منْكِري البَعْث، ونبه على ضَعْف عُقُولِهِم، وتَنْفِير النَّاسِ عن الالْتِفَات إلى قوهم والاعْتِزَاء بشُبُهاتهم، عاد بعدها إلى المقصُود الأصْلي، وهو إقامة الدَّلائِل على تَقْرير التًّوحيد، فقال - تعالى - :﴿ وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ ﴾ وهذا الدَّليل قد سبق في هذه السُّورة، وهو قوله - تعالى- :﴿ وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ [ الأنعام : ٩٩ ] فالآية المتقدمة ذكر فيها خَمْسة أنواع : وهي الزَّرع، والنخل، وجنَّات من أعْناب، والزيتون والرُّمَان، وذكر في هذه الآية الكريمة [ هذه الخمسة وقال :] « مشتبهاً وغَيْر مُتَشَابِه » وهنا « مَتَشابِهاً وغير مُتَشَابه » وذكر في الآية المتقدمة :« انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذَا أثْمَر وينعهِ » وذكر في هذه الآية :« كُلُوا مِنْ ثَمَره إذا أثْمر وآتوا حقَّهُ يوم حَصَادِهِ » فأذن في الانتفاع بها، وأم بِصَرف جُزْء مِنْها إلى الفُقَراء، فالذي حَصَل به الامْتِيَاز بين الآيتين : أن هُنَاك أمر بالاسْتِدْلال بها على الصَّانع الحكيم وههنا أذن في الانْتِفَاع بها، وذلك تَنْبِيهٌ على أن الأمْرَ بالاسْتِدْلال بها على الصَّانِع الحَكيم مقدَّم على الإذن في الانتفاع، لأن الاستدلال على الصَّانِع يَحْصُل به سعادة جُسْمانِيَّة سريعة الانْقضَاء والأول أولى بالتَّقْديم.
وقال القرطبي : ووجه اتِّصَال هذا بما قَبْلَه : أن الكُفَّار لما افْتَروا على الله الكذب، وأشْركُوا معه وحَلَّلُوا أو حَرَّمُوا، دَلَّهم على وحْدانِيَّته بأنه خَالِق الأشْيَاءِ، وأنه جَعَل هذه الأشْيَاء أرْزَاقاً لهُمْ.
قوله :« أنْشَأ جَنَّاتٍ » أي : خَلَقها، يقال : نشأ الشَّيْء يَنْشَأ ونَشْأه ونَشَاءَةً، إذا طره وراتفع، والله يُنْشِئُه إنْشَاء، أي : يُظْهرُه ويرفعه.
وقوله :« مَعْرُوشَاتٍ » يقال : عَرَشْت الكَرَم أعْرِشُه عَرْشاً وعَرَّشْهُ تَعْريشاً إذا عطفت العيدان الَّتِي تُشَال عليها قُضْباَن الكَرْم، والواحِدُ عَرْشٌ، والجمع عُرُوشٌ، ويُقَال : عَرِيش وجمع عُرُوض، واعْتَرش العِنَبُ العَرِيش اعْتِرَاشاً، وفيه أقوال :
أحدها : قال الضَّحَّاك : إن المَعْرُوشاتِ وغَيْر المَعْرُوشَاتِ كلاهما الكَرْم؛ فإن بَعْضَ الأعناب يُعَرَّش وبَعْضُها لا يُعَرَّش، بل يَبْقَى على وجْهِ الأرْضِ مُنْبَسِطاً.
وثانيها : المَعْرُوشات : العِنَب الَّتِي يجعل لها عُرُوش، وغير المعروشات : كُلُّ ما يَنْبُت منَبِسطاً على وَجْه الأرض؛ مثل القَرْع والبطِّيخ.
وثالها : قال ابن عبَّاس- رضي الله عنهما- :« المَعْرُوشات : ما يُحْتَاجُ أن يتَّخذ له عَرِيشٌ يحمل عَلَيْه؛ مث الكَرْم والبطِّيخ والقَرْع وغيرها، وغير المَعْرُوش : هو القَائِم على سَاقِهِ كالنَّخْلِ والزَّرْع.
ورابعها : المَعْرُوشات : ما يَحْصُل في البَسَاتين والعمرانات مما يغرسه النَّاسِ، وغير المعروشات : مما أنْبَتَهُ اللَّه- تبارك وتعالى - وجني في البَرَارِي والجِبَال.


الصفحة التالية
Icon