هذا استثناء مُفَرّغ أي : لا تَقَرَبُوه إلا بالخَصْلَة الحُسْنَى، فيجُوزُ أن يَكُون حالاً، وأن يَكُون نَعْتَ مَصْدَر، وأتى بصيغة التَّفْضِيل؛ تنبيهاً على أنَّه يتحرَّى في ذلك، ويَفْعَل الأحْسَن ولا يَكْتَفي بالحَسَن.
قوله :« حَتَّى يَبْلُغ » هذه غاية من حَيْث المَعْنَى، فإن المَعْنى : احْفَظُوا ماله حتى يَبْلُغَ أشُدَّهُ، [ ولو جَعلْنَاه غاية للَّفْظِ، كان التقدير : لا تَقْرَبُوه حتى يَبْلُغ ] فاقربوه، ولَيْس ذلك مُرَاداً.
قال القرطبي :« وليس بُلُوغ الأشُدِّ مما يُبِيحُ به قُرْب ماله بغير الأحْسَن؛ لأن الحُرْمَة في حقِّ البَالِغ ثابِتَةٌ، وخصَّ اليتيم بالذِّكر؛ أن خَصِيمَهُ الله - تعالى - والمعنى لا تَقْرَبُوا مال اليَتيم إلا بالَّتِي هي أحْسَن على الأبَدِ حَتِّى يَبْلُغ أشُدَه، وفي الكلام حَذْف تقديره : فإذا بَلَغَ أشُدَّه وأنِس منه الرُّشْد، فادْفَعُوا إليه مَاله ».
والأشُدُّ : اختلف النَّحْويُّون فيه على خمسة أوجه :
فقال الفرَّاء :« هو جمع لا وَاحِد له، والأشُدُّ واحدُها » شَدٌّ « في القياس، ولم أسْمَع لها بِوَاحدٍ ».
وقيل : هو مُفْرَدٌ لا جمع، نقل ابن الأنْبَاري ذلك عن بعض أهْل اللَّغَة، وأنه بِمَنْزلة « الآنُك » ونقل أبو حيَّان عنه : أن هذا الوَجْه مُخْتَاره في آخرين، ثم قال :« ولَيْ بمختارٍ؛ لفقدان أفْعُل في المُفْرَادَات وضعاً ».
وقيل : هو جَمْع « شدَّة » و « فِعْلَة » يُجْمَع على أفْعُل « ؛ كنِعْمَة وأنْعُم، قال أبو الهَيْثَم، وقال : و » كأن الهَاءَ في الشِّدَة والنِّعْمَة لم تكن في الحَرْف، إذا ان زَائِدَة، وكان الأصلُ نِعْم وشِدّ فَجُمِعَا على « أفْعُل » ؛ كما قالوا : رِجْل وأرْجُل، وقِدْح وأقْدُح، وضِرْس وأضْرُس «.
وقيل : هو جمع شُدّ [ بضم الشِّين نقله ابن الأنْبَاري عن بعض البَصْرِيِّين؛ قال : كقولك : هو وُدُّ، وهم أوُدُّ ].
وقيل : هو جمع شَدّ بفتحها، وهو مُحْتَمل.
والمراد هُنَا ببلوغ الأشد : بُلُوغ الحُلُم في قَوْل الأكْثَرِ؛ لأنه مَظِنَّة ذلك.
وقيل : هو مَبْلَغ الرِّجَال من الحِيلة والمَعْرِفة. وقيل : هو مَبْلَغ خمسة عشر إلى ثلاثين.
وقيل : أن ثلاثة وثلاثين.
وقيل : أرْبَعِين.
وقيل : سِتِّين، وهذه لا تَلِيق بهذه الآيةِ، إنما تليق بقوله - تعالى- :﴿ حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ﴾ [ الأحقاف : ١٥ ] وتقدم منه طرف في النساء.
والأشُدُّ مشتق من الشِّدَّة؛ وهي القُوَّة والجلادة، وأنشد الفرَّاء - رحمه الله تعالى- :[ البسيط ]

٢٣٨٢- قَدْ سَادَ وهو فَتَى حَتَّى إذَا بَلَغَتْ أشُدُّهُ وعَلاَ فِي الأمْرِ واجْتَمَعَا
وقال الآخرُ في ذلك :[ الكامل ]
٢٣٨٣- عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهَارُ كأنَّمَا خُضِبَ البَنَانُ وَرَأسُهُ بِالعظْلمِ
قوله :»
وأوفُوا الكَيْلَ والمِيزانَ « » الكيل والميزان « هما الآلة التي يُكال بها ويُوزَن، وأصْل الكَيْل : المصْدَر ثم أطْلِق على الآلة، و » الميزان « : مْفَاعل من الوزن لهذه الآلةِ؛ كالمِصْبَاح والمقياس لِمَا يُسْتَصْبَحُ به، وما يُقاسُ به، وأصل ميزان : مِوْازن فَفُعِلَ به ما فُعِلَ بِميقاتٍ، وقد تقدم في البقرة.


الصفحة التالية
Icon