وقد يُجَاب عن هذا بأن إبليس لما خالف أمر ربّه ولعن لعلّه انتقل من تلك الصورة التي يُعْرَفُ بها إلى صورة أخرى، ولعلّ إبليس تشكّل لهما في صورة لا يعرفانها، فإن له قدرة التشكل، والله أعلم.

فصل في بيان أن آدم عصى ربه ناسياً


اختلفوا في صدور ذلك الفعل عن آدم - ﷺ - بعد النبوة، هل فعله ناسياً أو ذاكراً؟
قال طائفة من المتكلَمين : فعله ناسياً، واحتجوا بقوله تعالى :﴿ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ﴾ [ طه : ١١٥ ] ومثلوه بالصَّائم إذا أكل ناسياً، وهذا باطل من وجهين :
الأول : قوله تعالى :﴿ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ ﴾ [ الأعراف : ٢٠ ].
وقوله :﴿ وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين ﴾ [ الأعراف : ٢١ ] يدلّ على أنه ما نسي النهي حال الإقدام.
الثاني : أنه لو كان ناسياً لما عوتب على ذلك الفعل.
أما من حيث العقل فلأن الناسي غير قادر على الفعل فلا يكون مكلفاً به لقوله تعالى :﴿ لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَ ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ].
وأما من حيث النقل فلقوله ﷺ :« رُفعَ عَنْ أمّتي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ ».
وقد يجاب عن الأول بأنا لا نسلّم أن آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - قَبَلاَ من إبليس ذلك الكلام وصَدّقاه؛ لأنهما لو صدقاه لكانت معصيتهما في ذلك التصديق أعظم من أكل الشَّجرة؛ لأن إبليس لما قال لهما :﴿ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ ﴾ [ الأعراف : ٢٠ ] الآية فقد ألقى إليهما سوء الظَّن بالله - تعالى - ودعاهما إلى ترك التَّسْلِيم لأمره، والرضا بحكمه، وان يعتقدوا فيه كون إبليس ناصحاً لهما، وأن الرب - تَعَالَى - قد غضهما ولا شك أن هذه الأشياء أعظم من أكل الشجرة، فوجب أن تكون المُعَاتَبَةِ في ذلك أشد، وأيضاً آدم - ﷺ - كان عالماً بتمرد « إبليس »، وكونه مبغضاً له وحاسداً له، فكيف يجوز من العاقل أن يقبل قول عدوّه مع هذه القرائن، وليس في الآية أنهما أقدما على ذلك الفعل عند ذلك الكلام.
وأما الجواب الثاني : فهو أن العتاب إنما حصل على قلّة التحفُّظ من سباب النسيان، وهذا الضرب من السَّهو موضوع عن المسلمين، وقد كان يجوز أن يؤاخذوا به، وليس بموضوع عن الأنبياء لعظم خَطَرِهِمْ ومثّلوه بقوله :﴿ يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء ﴾ [ الأحزاب : ٣٢ ]، ثم قال :﴿ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ ﴾ [ الأحزاب : ٣٠ ].
وقال ﷺ :« أَشَدُّ النَّاس بَلاَءً الأنبياءُ ثم الأوْلِيَاءُ ثم الأَمْثَلُ فالأَمْثَلُ »، ولقد كان على النبي ﷺ من التَّشْديدات في التَّكليف ما لم يَكُنْ على غيره.


الصفحة التالية
Icon