الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد.
فإن القرآن الكريم كلام الله _عز وجل_ أنزله على قلب نبينا محمد " ليكون من المنذرين.
وما زال العلماء _منذ نزوله_ يتعاقبون على دراسته، ويعكُفون على النهل من معينه، والتزود من هدايته.
هذا وإن لعلماء التفسير من ذلك أوفرَ الحظ والنصيب؛ حيث صرفوا همهم لتدبر كتاب الله، وفهم مراده _عز وجل_ فكان من ذلك المؤلفاتُ العظيمةُ في التفسير على اختلاف مناهج أصحابها.
ومن أعظم ما أُلِّف في هذا الشأن في العصور المتأخرة ما رقمته يراعةُ العلامة الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور×وذلك في تفسيره المعروف بـ: التحرير والتنوير.
فهو تفسيرٌ عظيمٌ حافلٌ بما لذَّ وطاب من العلوم، ولا غرو في ذلك؛ فصاحبه عالم كبير، وجهبذ نحرير، له يد طولى، وقِدْحٌ مُعَلَّى في علوم شتى.
والذي يطَّلع على مؤلفاته الكثيرة المتنوعة يراها تحمل طابعاً مميزاً، وطرزاً فريداً لا تجده إلا عند الندرة من العلماء، وفي القليل من المؤلفات.
ومع ذلك فإن هذا العالم لم يأخذ حظَّه من الذيوع والشهرة.
ونظراً لعظم شأن تفسيره، ولأنه مليء بكنوز من العلم والمعارف، والثقافة، ولكونه مطولاً يقع في ثلاثين جزءاً، وفي صفحات يصل عددها إلى أحد عشر ألفاً ومائة وسبع وتسعين صفحة من غير الفهارس، وبخط صغير، ولو كان الخط أكبر لكانت الصفحات أكثر، وهذا مما يصرف عن قراءته _ فقد رأيت أن أستخرج بعض اللطائف الرائعة، واللفتات البارعة التي احتوى عليها ذلك التفسير العظيم؛ رغبةً في عموم النفع، وإسهاماً في التعريف بذلك العمل الجليل الذي لا يخطر لكثير من طلبة العلم _فضلاً عن غيرهم_ ما يشتمل عليه من نفائس العلم وغواليه؛ إذ إن بعضهم يظنون أنه متمحض في إبراز بلاغة القرآن فحسب، دون أن يكون له عناية ببقية العلوم.
وهذا الظن خلاف الواقع _كما سيتبين عند الحديث عن منهجه في تفسيره_.
١_ سميت هذه السورة سورة الحج في زمن النبي".
أخرج أبو داود، والترمذي عن عقبة بن عامر قال: =قلت: يا رسول الله أفضلت سورة الحج على سائر القرآن بسجدتين؟ قال: نعم+.
وأخرج أبو داود، وابن ماجه عن عمرو بن العاص أن رسول الله "أقرأه خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل، وفي سورة الحج سجدتان.
وليس لهذه السورة اسم غير هذا.
ووجه تسميتها سورةُ الحج أن الله ذكر فيها كيف أمر إبراهيم _عليه السلام_ بالدعوة إلى حج البيت الحرام، وذكر ما شرع للناس يومئذ من النسك؛ تنويهاً بالحج وما فيه من فضائل ومنافع، وتقريعاً للذين يصدون المؤمنين عن المسجد الحرام، وإن كان نزولها قبل أن يفرض الحج على المسلمين بالاتفاق، وإنما فرض الحج بالآيات التي في سورة البقرة، وفي سورة آل عمران. ١٧/١٧٩
٢_ واختلف في هذه السورة هل هي مكية أو مدنية، أو كثير منها مكي وكثير منها مدني. ١٧/١٨٠
٣_ وقال الجمهور هذه السورة بعضها مكي وبعضها مدني وهي مختلطة، أي لا يعرف المكي بعينه، والمدني بعينه، قال ابن عطية: =وهو الأصح+. ١٧/١٨٠
٤_ وأقول: ليس هذا القول مثل ما يكثر أن يقولوه في بضع آيات من عدة سور: إنها نزلت في غير البلد الذي نزل فيه أكثر السورة المستثنى منها، بل أرادوا أن كثيراً منها مكي، وأن مثله أو يقاربه مدني، وأنه لا يتعين ما هو مكي منها وما هو مدني؛ ولذلك عبروا بقولهم: هي مختلطة. ١٧/١٨٠
٥_ ويشبه أن يكون أولها نزل بمكة؛ فإن افتتاحها بـ:[يَا أَيُّهَا النَّاسُ] جارٍ على سنن فواتح السور المكية.
وفي أساليب نظم كثير من آياتها ما يلائم أسلوب القرآن النازل بمكة.