قوله تعالى ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣) ﴾
" فصل "
قال البقاعى :
﴿وكذلك﴾ أي ومثل ما فتناهم بإرسالك ﴿فتنا﴾ أي فعلنا فعل المختبر قسراً بما لنا من العظمة ﴿بعضهم ببعض﴾ بالتخصيص بالإيمان والغنى والفقر ونحو ذلك ﴿ليقولوا﴾ أي إنكاراً لأن تفضل غيرهم عليهم احتقاراً لهم واستصغاراً ﴿أهؤلاء﴾ أي الذين لا يساووننا بل لا يقاربوننا في خصلة من خصال الدنيا ﴿منَّ الله﴾ أي على جلاله وعظمه ﴿عليهم﴾ أي وفقهم لإصابة الحق وما يسعدهم عنده وهم فيما نرى من الحقارة ﴿من بيننا﴾ فالآية ناظرة إلى ما يأتي في هذه السورة من قوله تعالى ﴿حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ].
ولما كان الإنكار لا يسوغ إلاّ مع نهاية العلم بمراتب المفضلين، وأن المفضل لا يستحق التفضيل من الوجه المفضل به، أنكر إنكارهم بقوله :﴿أليس الله﴾ أي الذي له جميع الأمر، فلا اعتراض عليه ﴿بأعلم بالشاكرين﴾ أي الذين يستحقون أن يفضلوا لشكرهم على غيرهم لكفرهم. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٢ صـ ٦٤٣ ـ ٦٤٤﴾
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى بيّن في هذه الآية أن كل واحد مبتلى بصاحبه، فأولئك الكفار الرؤساء الأغنياء كانوا يحسدون فقراء الصحابة على كونهم سابقين في الإسلام مسارعين إلى قبوله فقالوا : لو دخلنا في الإسلام لوجب علينا أن ننقاد لهؤلاء الفقراء المساكين وأن نعترف لهم بالتبعية، فكان ذلك يشق عليهم.
ونظيره قوله تعالى :﴿أءُلْقِىَ الذّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا﴾ [ القمر : ٢٥ ] ﴿لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَا إِلَيْهِ﴾ [ الأحقاف : ١١ ] وأما فقراء الصحابة فكانوا يرون أولئك الكفار في الراحات والمسرات والطيبات والخصب والسعة، فكانوا يقولون كيف حصلت هذه الأحوال لهؤلاء مع أنا بقينا في هذه الشدة والضيق والقلة.
فقال تعالى :﴿وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ فأحد الفريقين يرى الآخر متقدماً عليه في المناصب الدينية والفريق الآخر يرى الفريق الأول متقدماً عليه في المناصب الدنيوية، فكانوا يقولون أهذا هو الذي فضله الله علينا، وأما المحققون فهم الذين يعلمون أن كل ما فعله الله تعالى فهو حق وصدق وحكمة وصواب ولا اعتراض عليه، إما بحكم المالكية على ما هو قول أصحابنا أو بحسب المصلحة على ما هو قول المعتزلة، فكانوا صابرين في وقت البلاء، شاكرين في وقت الآلاء والنعماء وهم الذين قال الله تعالى في حقهم ﴿أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين ﴾. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٢ صـ ١٩٦﴾