قوله تعالى ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (١٣٢) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما بيّن سبحانه أن لأحد الفريقين دار السلام، والآخر دار الملام، قال جامعاً للفريقين عاطفاً على قوله ﴿لهم دار السلام عند ربهم﴾ [ الأنعام : ١٢٧ ] :﴿ولكل﴾ أي عامل من الفريقين صالح أو طالح في قبيلي الجن والإنس في الدارين ﴿درجات﴾ أي يعليهم الله بها ﴿مما﴾ أي من أجل ما ﴿عملوا﴾ ودركات يهويهم فيها كذلك.
ولما تقدم أنه تعالى لا يهلك المجرمين إلاّ بعد الإعذار إليهم، وتضمن ذلك إمهالهم، وختم أحوالهم بأنهم موضع لثبوت الغفلة ودوامها، نفى أن يسلم شيء من ذلك بجناب عظمته على وجه أثبت له ذلك إحاطة العلم بجميع أعمالهم فقال :﴿وما ربك﴾ أي المحسن إليك بإعلاء أوليائك وإسفال أعدائك، وأغرق في النفي لإثبات مزيد العلم فقال :﴿بغافل عما يعملون﴾ أي عن شيء يعمله أحد من الفريقين، بل هو عالم بكل شيء من ذلك وبما يستحقه العامل قادر على جزائه، فلا يقع في وهم أن الإمهال لخفاء الاستحقاق بخفاء الموجب له، فالآية من النصوص في كتابة الصالحين من الجن. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٢ صـ ٧١٨ ـ ٧١٩﴾

فصل


قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما شرح أحوال أهل الثواب والدرجات، وأحوال أهل العقاب والدركات ذكر كلاماً كلياً، فقال :﴿وَلِكُلّ درجات مّمَّا عَمِلُواْ﴾ وفي الآية قولان :
القول الأول : أن قوله :﴿وَلِكُلّ درجات مّمَّا عَمِلُواْ﴾ عام في المطيع والعاصي، والتقدير :
ولكل عامل عمل فله في عمله درجات، فتارة يكون في درجة ناقصة، وتارة يترقى منها إلى درجة كاملة، وأنه تعالى عالم بها على التفصيل التام، فرتب على كل درجة من تلك الدرجات ما يليق به من الجزاء، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
والقول الثاني : أن قوله :﴿وَلِكُلّ درجات مّمَّا عَمِلُواْ﴾ مختص بأهل الطاعة، لأن لفظ الدرجة لا يليق إلا بهم.
وقوله :﴿وَمَا رَبُّكَ بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ مختص بأهل الكفر والمعصية والصواب هو الأول.
واعلم أن هذه الآية تدل أيضاً على صحة قولنا في مسألة الجبر والقدر، وذلك لأنه تعالى حكم لكل واحد في وقت معين بحسب فعل معين بدرجة معينة، وعلم تلك الدرجة بعينها وأثبت تلك الدرجة المعينة في اللوح المحفوظ وأشهد عليه زمر الملائكة المقربين، فلو لم تحصل تلك الدرجة لذلك الإنسان لبطل ذلك الحكم، ولصار ذلك العلم جهلاً، ولصار ذلك الإشهاد كذباً وكل ذلك محال فثبت أن لكل درجات مما عملوا وما ربك بغافل عما تعملون، وإذا كان الأمر كذلك، فقد جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، والسعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقي في بطن أمه. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٣ صـ ١٦٢ ـ ١٦٣﴾. بتصرف يسير.


الصفحة التالية
Icon