قوله تعالى ﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (١٤٠) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ذكر تعالى تفاصيل سفههم، وأشار إلى معانيها، جمعها - وصرح بما أثمرته من الخيبة - في سبع خلال كل واحدة منها سبب تام في حصول الندم فقال :﴿قد خسر﴾ وأظهر في موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف فقال :﴿الذين قتلوا﴾ قرأها ابن عامر وابن كثير بالتشديد لإرادة التكثير والباقون بالتخفيف ﴿أولادهم سفهاً﴾ أي خفة إلى الفعل المذموم وطيشاً، تؤزهم الشياطين الذين يتكلمون على ألسنة الأصنام أو سدنتها إلى ذلك أزاً.
ولما كان السفه منافياً لرزانة العلم الذي لا يكون الفعل الناشئ عنه إلا عن تأن وتدبر وتفكر وتبصر، قال مصرحاً بما أفهمه :﴿بغير علم﴾ أي وأما من قتل ولده بعلم - كما إذا كان كافراً أو قاتلاً أو محصناً زانياً - فليس حكمه كذلك ؛ ولما ذكر عظيم ما أقدموا عليه، ذكر جليل ما أحجموا عنه فقال :﴿وحرموا ما رزقهم الله﴾ أي الذي لا ملك سواه رحمة لهم، من تلك الأنعام والغلات، بغير شرع ولا نفع بوجه ﴿افتراء﴾ أي تعمداً للكذب ﴿على الله﴾ أي الذي له جميع العظمة.
ولما كانوا قد خسروا ثلاث خسرات مع ادعائهم غاية البصر بالتجارات : النفس بقتل الأولاد، والمال بتحريم ما رزقهم الله، فأفادهم ذلك خسارة الدين، كانت نتيجته قوله :﴿قد ضلوا﴾ أي جاوزوا وحادوا عن الحق وجاروا ؛ ولما كان الضال قد تكون ضلالته فلتة عارضة له، وتكون الهداية وصفاً أصيلاً فيه، نبه على أن الضلال وصفهم الثابت بقوله :﴿وما كانوا﴾ أي في شيء من هذا من خلق من الأخلاق ﴿مهتدين﴾ أي لم يكن في كونهم وصف الهداية، بل زادوا بذلك ضلالاً ؛ قال البخاري في المناقب من صحيحه : حدثنا أبو النعمان حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام ﴿قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفهاً﴾ - إلى قوله :﴿وما كانوا مهتدين ﴾.
وله في وفد بني حنيفة من المغازي عن مهدي بن ميمون قال : سمعت أبا رجاء العطاردي يقول : كنا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً أحسن منه ألقيناه فأخذنا الآخر، وإذا لم نجد حجراً جمعنا جثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبنا عليه ثم طفنا به، فإذا دخل شهر رجب قلنا : منصل الأسنة، فلا ندع رمحاً فيه حديدة ولا سهماً فيه حديدة إلا نزعناه فألقيناه شهر رجب. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٢ صـ ٧٢٥ ـ ٧٢٦﴾

فصل


قال الفخر :
إنه تعالى ذكر فيما تقدم قتلهم أولادهم وتحريمهم ما رزقهم الله.
ثم إنه تعالى جمع هذين الأمرين في هذه الآية وبين ما لزمهم على هذا الحكم، وهو الخسران والسفاهة، وعدم العلم، وتحريم ما رزقهم الله، والافتراء على الله، والضلال وعدم الاهتداء، فهذه أمور سبعة وكل واحد منها سبب تام في حصول الذم.
أما الأول : وهو الخسران، وذلك لأن الولد نعمة عظيمة من الله على العبد، فإذا سعى في إبطاله، فقد خسر خسراناً عظيماً لا سيما ويستحق على ذلك الإبطال الذم العظيم في الدنيا، والعقاب العظيم في الآخرة.


الصفحة التالية