قوله تعالى ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان كأن سائلاً قال : وما هذه الملة التي تكرر مدحها والدعاء إليها؟ أجاب بقوله ليتأسى به أهل الإيمان، فليلتزموا جميع ما يدعو إليه على وجه الإخلاص :﴿قل إن صلاتي﴾ أي التي هي لباب الدين وصفاوته ﴿ونسكي﴾ أي جميع عبادتي من الذبائح وغيرها ﴿ومحياي﴾ أي حياتي وكل ما تجمعه من زمان ومكان وفعل ﴿ومماتي لله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا يخرج شيء عن أمره ؛ ولما علم بالاسم الأعظم أنه يستحق ذلك لذاته، أعلم أنه يستحقه من كل أحد لإحسانه إليه وإنعامه عليه فقال :﴿رب العالمين﴾ الموجد والمدبر والموعي لهم. أ هـ ﴿نظم الدرر حـ ٢ صـ ٧٥٢﴾
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى كما عرفه الدين المستقيم عرفه كيف يقوم به ويؤديه فقوله :﴿قُلْ إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى لِلَّهِ رَبِّ العالمين﴾ يدل على أنه يؤديه مع الأخلاص وأكده بقوله :﴿لاَ شَرِيكَ لَهُ﴾ وهذا يدل على أنه لا يكفي في العبادات أن يؤتى بها كيف كانت بل يجب أن يؤتى بها مع تمام الإخلاص وهذا من أقوى الدلائل على أن شرط صحة الصلاة أن يؤتى بها مقرونة بالأخلاص.
أما قوله :﴿وَنُسُكِى﴾ فقيل المراد بالنسك الذبيحة بعينها، يقول : من فعل كذا فعليه نسك أي دم يهريقه، وجمع بين الصلاة والذبح، كما في قوله :﴿فَصَلّ لِرَبِّكَ وانحر﴾ [ الكوثر : ٢ ] وروى ثعلب عن ابن الأعرابي أنه قال : النسك سبائك الفضة، كل سبيكة منها نسيكة، وقيل : للمتعبد ناسك، لأنه خلص نفسه من دنس الآثام، وصفاها كالسبيكة المخلصة من الخبث، وعلى هذا التأويل، فالنسك كل ما تقربت به إلى الله تعالى إلا أن الغالب عليه في العرف الذبح وقوله :﴿وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى﴾ أي حياتي وموتي لله.
واعلم أنه تعالى قال :﴿إِنَّ صَلاَتِى وَنُسُكِى وَمَحْيَاىَ وَمَمَاتِى للَّهِ رَبِّ العالمين﴾ فأثبت كون الكل لله، والمحيا والممات ليسا لله بمعنى أنه يؤتى بهما لطاعة الله تعالى، فإن ذلك محال، بل معنى كونهما لله أنهما حاصلان بخلق الله تعالى، فكذلك أن يكون كون الصلاة والنسك لله مفسراً بكونهما واقعين بخلق الله، وذلك من أدل الدلائل على أن طاعات العبد مخلوقة لله تعالى.
وقرأ نافع ﴿محياي﴾ ساكنة الياء ونصبها في مماتي، وإسكان الياء في محياي شاذ غير مستعمل، لأن فيه جمعاً بين ساكنين لا يلتقيان على هذا الحد في نثر ولا نظم، ومنهم من قال : إنه لغة لبعضهم، وحاصل الكلام، أنه تعالى أمر رسوله أن يبين أن صلاته وسائر عباداته وحياته ومماته كلها واقعة بخلق الله تعالى، وتقديره وقضاءه وحكمه. أ هـ ﴿مفاتيح الغيب حـ ١٤ صـ ١٠ ـ ١١﴾