قوله تعالى ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (١٢٨) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أمر ـ ﷺ ـ أن يبلغ هذه الأشياء الشاقة جداً من أمر هذه السورة، وكان من المعلوم أنه لا يحمل ذلك إلا من وفقه الله تعالى، وأما المنافقون فيكرهون ذلك وكان انصرافهم دالاً على الكراهة، عرفهم أن الأمر كان يقتضي توفر دواعيهم على محبة هذا الداعي لهم المقتضي لملازمته والبعد عما يفعلونه به من الانصراف عنه، وأن أحواله الداعية لهم إلى محبته أعظم من أحوال آبائهم التي أوجبت لهم منهم من المحبة وعليهم من الحقوق ما هم مفتخرون بالتلبس به والمغالاة فيه، وأن كل ما يحصل بهذا القرآن من العز والشرف في الدنيا فهو لكل من آمن به فقال :﴿لقد جاءكم رسول ﴾.
ولما كان الرسول يجب إكرامه والوقوف في خدمته لأجل مرسله ولو تجرد عن غير ذلك الوصف، شرع يذكر لهم من أوصافه ما يقتضي لهم مزيد إكرامه فقال :﴿من أنفسكم﴾ أي ترجعون معه إلى نفس واحدة بأنكم لأب قريب، وذلك أقرب إلى الألفة وأسرع إلى فهم الحجة وأبعد من المحل واللجاجة ﴿عزيز﴾ أي شديد جداً ﴿عليه ما عنتم﴾ والعزة : امتناع الشيء بما يتعذر معه ما يحاول منه بالقدرة أو بالقلة أو بالصعوبة، والعنت : لحاق الأذى الذي يضيق الصدر به ولا يهتدي للمخرج منه ﴿حريص﴾ أي بليغ الحرص ﴿عليكم﴾ أي على نفعكم، والحرص : شدة طلب الشيء على الاجتهاد فيه، وقدم الجار لإفادة الاختصاص فقال :﴿بالمؤمنين﴾ أي العريقين في هذا الوصف كافة خاصة، ولما ذكر الوصف المقتضي للرسوخ، قدم ما يقتضي العطف على من يتسبب له بما يقتضي الوصلة فقال :﴿رءوف﴾ أي شديد الرحمة لمن له منه عاطفة وصلة لما تقدم من معنى الرأفة قريباً.


الصفحة التالية