قوله تعالى ﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٣) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
شرع سبحانه يقيم الدليل على بطلان قولهم من أنه - مع ما تضمنه من البعث - سحر، وعلى حقيقة أنه من عنده من غير شبهة، وعلى أن الرسالة لا عجب فيها، لأنه سبحانه خلق الوجود كله وهو نافذ الأمر فيه وقد ابتلى من فيه من العقلاء ليردهم إليه ويحاسبهم فإنه لم يخلقهم سدى لأنه حكيم، فلا بد من رسول يخبرهم بما يرضيه وما يغضبه لتقوم بذلك الحجة فقال :﴿إن ربكم﴾ أي الموجد لكم والمربي والمحسن ﴿الله﴾ أي من ربى شيئاً ينبغي أن يكون حكيماً وقادراً على أسباب صلاحه، فأيقظوا أنفسكم من سنة غفلتها تعلموا أن هذا الكتاب من عند الذي له العظمة كلها قطعاً، وأنه قادر على بعثكم لأنه ربكم ﴿الذي﴾ بدأ الخلق بأن ﴿خلق﴾ أي قدر وأوجد ﴿السماوات والأرض﴾ على اتساعهما وكثرة ما فيهما من المنافع ﴿في ستة أيام﴾ لحكمة أرادها على أن ذلك وقت يسير لا يفعل مثل ذلك في مثله إلا من لا يعجزه شيء.
ولما أوجد سبحانه هذا الخلق الكثير المتباعد الأقطار الواسع الانتشار المفتقر إلى عظيم التدبير ولطيف التصريف والتقدير، عبر سبحانه عن عمله فيه عمل الملوك في ممالكهم بقوله مشيراً إلى عظمته بأداة التراخي :﴿ثم استوى﴾ أي عمل في تدبيره وإتقان ما فيه وإحكامه عمل المعتني بذلك ﴿على العرش﴾ المتقدم وصفه بالعظمة، وليست " ثم " للترتيب بل كناية عن علو الرتبة وبعد منالها ؛ ثم بين ذلك الاستواء بقوله :﴿يدبر﴾ لأن التدبير أعدل أحوال الملك فالاستواء كناية عنه ﴿الأمر﴾ كله فلا يخفي عليه عاقبة أمر من الأمور، فحصل الأمن بهذا من أن يفعل شيء بغير علمه، لأن التدبير تنزيل الأمور في مراتبها على إحكام عواقبها، وهو مع ذلك منزه عما تعرفونه من أحوال الملوك من أنه يكون في ممالكهم من يقضي بعض الأمور بغير إذن منهم وإن علموا به لعجزهم عن المجاهرة بإدامة دفعه، بل هو متصف بأنه ﴿ما من شفيع﴾ أي وإن كان بليغ الاتصاف بذلك.


الصفحة التالية
Icon