قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ثبت أن ذلك كله حق مباين للسحر الذي مبناه على التخييل، أقبل على الذين تقدم الإخبار عنهم في أول السورة في قوله : أكان للناس عجباً أنهم قالوا إنه سحر، فقال :﴿يا أيها الناس﴾ أي الذين قالوا : إن وعدنا والإخبار به سحر ؛ ولما كان بين الأرواح والأبدان حب غريزي بالتعلق، والتذ الروح لذلك بمشتهيات هذه الحياة الدنيا بما انطبع فيه بمظاهر الحس فلم يأته نور العقل حتى تعود النقائص بقوة التعلق فحدثت له أخلاق ذميمة هي أمراض روحانية، فأرسل ربه الذي أوجده ودبره وأحسن إليه طبيباً حاذقاً هو الرسول ـ ﷺ ـ لعلاج هذه الأمراض.
وأنزل كتابه العزيز لوصف الأدوية، فكان أحكم الطب منع المريض عن أسباب المرض، قال تعالى :﴿قد جاءتكم موعظة﴾ أي زاجر عظيم عن التخلي عن كل ما يشغل القلب عن الله من المحظورات وغيرها من كل ما لا ينبغي، وذلك هو الشريعة.
ولما كان تناول المؤذي شديد الخطر، وهو لذيذ إلى النفس بينهما من ملاءمة النقص، وكان الانكفاف عنه أشق شيء عليها، رغبها في القبول بقوله :﴿من ربكم﴾ أي المحسن إليكم المدبر لمصالحكم بهذا القرآن ؛ ولما كان أليق ما يعمل بعد الحمية تعاطي الدواء المزيل للأخلاط الفاسدة من الباطن، قال :﴿وشفاء﴾ أي عظيم جداً ﴿لما في الصدور﴾ من أدواء الجهل، وذلك الشفاء يحصل بتطهير الباطن بعد التخلي عن الأخلاق الذميمة بالتحلي بالصفات الحميدة ليصير الباطن سالماً عن العقائد الفاسدة والأخلاق الناقصة كما سلم البدن من الأفعال الدنية، وهذا هو الطريق.
ولما كانت الروح إذا انصقلت مرآتها فصارت قابلة لتجلي الأنوار عليها بفيض البروق الإلهية والنفخات القدسية والمواهب الملكوتية لأنها دائمة اللمعان كما قال ـ ﷺ ـ فيما رواه الطبراني عن محمد بن مسلمة ـ رضى الله عنهم ـ :" إن لربكم أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا له " الحديث.
وليس المانع من نزولها في كل قلب إلا عدم القابلية من بعضها لتراكم الظلمات فيها من صداء المخالفة ودين الإعراض والغفلة، فيكون بذلك كالمرايا الصديئة لا تقبل انطباع الصور بها، قال تعالى :﴿وهدى﴾ إلى الحق لأنه نور عظيم يقود صاحبه - ولابد - إلى الطريق الأقوم، وهذا للصديقين وهو الحقيقة.