قوله تعالى ﴿ فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
فلما سمعوا ذلك واطمأنوا، أخذ في قص ما كان بعده، فقال مشيراً بالفاء إلى قلة زمن الإنكار الذي هو سبب الفزع :﴿فلما ذهب﴾ بانكشاف الأمر ﴿عن إبراهيم الروعُ﴾ أي الخوف والفزع الشديد ﴿وجآءته البشرى﴾ فامتلأ سروراً ﴿يجادلنا﴾ أي أخذ يفعل معنا بمجادلة رسلنا فعل المجادل الذي يكثر كلامه إرادة الفتل مخاطبه عما يقوله ﴿في قوم لوط﴾ أي يسألنا في نجاتهم سؤالاً يحرص فيه حرص المجادل في صرف الشيء، من الجدل وهو الفتل، ووضع المضارع موضع الماضي إشارة إلى تكرر المجادلة مع تصوير الحال، أي جادلنا فيهم جدالاً كثيراً ؛ ثم علل مجادلته بقوله :﴿إن إبراهيم لحليم﴾ أي بليغ الحلم، وهو إمهال صاحب الذنب على ما يقتضيه العقل ﴿أواه﴾ أي رجاع للتأوه خوفاً من التقصير ﴿منيب﴾ أي رجاع إلى الله بالسبق في ارتقاء درج القرب، فهو - لما عنده هذه المحاسن - لا يزال يتوقع الإقلاع من العصاة.
ولما كان أكثر المجادلة لما عنده من الشفقة على عباد الله لما له من هذه الصفات الجليلة، أعلمه الله أن الأمر قد ختم بقوله حكاية أن الرسل قالت له بعد طول المجادلة منادين بالأداة التي هي أم الباب إعلاماً بأن ما بعدها عظيم الشأن عالي المنزلة :﴿يا إبراهيم أعرض﴾ أي بكليتك ﴿عن هذا﴾ أي السؤال في نجاتهم ؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لأنه بمجادلته في حيز من ينكر بتّ الأمر :﴿إنه قد﴾ افتتحه بحرف التوقع لأنه موضعه ﴿جآء أمر ربك﴾ أي الذي عودك بإحسانه الجم، فلولا أنه حتم الأمر بعذابهم لأمهلهم لأجلك، ولذا عطف على العلة قوله مؤكداً إعلاماً بأنه أمر قد انبرم ومضى :﴿وإنهم آتيهم﴾ أي إتياناً ثابتاً ﴿عذاب غير مردود﴾ أي بوجه من الوجوه من أحد كائناً من كان ؛ الإعراض : الانصراف، وحقيقته الذهاب عن الشيء في جهة العرض ؛ والرد : إذهاب الشيء إلى ما جاء منه كالرجع ؛ والدفع أعم لأنه قد يكون إلى جهة القدام ؛ فلما علم مراد الله فيهم، قدمه على مراده ولم ينطق بعده ببنت شفة.