قوله تعالى ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٠٩) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أوضح أبطال ما تعنتوا به من قولهم " لو أنزل عليه كنز " أتبعه ما يوضح تعنتهم في قولهم ﴿أو جاء معه ملك﴾ بذكر المرسلين، وأهل السبيل المستقيم، الداعين إلى الله على بصيرة، فقال :﴿وما أرسلنا﴾ أي بما من العظمة.
ولما كان الإرسال لشرفه لا يتأتى على ما جرت به الحكمة في كل زمن كما أنه لا يصلح للرسالة كل أحد، وكان السياق لإنكار التأييد بملك في قوله ﴿أو جاء معه ملك﴾ كالذي في النحل، لا لإنكار رسالة البشر، أدخل الجار تنبيهاً على ذلك فقال :﴿من قبلك﴾ أي إلى المكلفين ﴿إلا رجالاً﴾ أي مثل ما أنك رجل، لا ملائكة ولا إناثاً - كما قاله ابن عباس ـ رضى الله عنهما ـ، والرجل مأخوذ من المشي على الرجل ﴿نوحي إليهم﴾ أي بواسطة الملائكة مثل ما يوحى إليك ﴿من أهل القرى﴾ مثل ما أنك من أهل القرى، أي الأماكن المبنية بالمدر والحجر ونحوه، لأنها متهيئة للإقامة والاجتماع وانتياب أهل الفضائل، وذلك أجدر بغزارة العقل وأصالة الرأي وحدة الذهن وتوليد المعارف من البوادي، ومكة أم القرى في ذلك لأنها مجمع لجميع الخلائق لما أمروا به من حج البيت، وكان العرب كلهم يأتونها ؛ قال الرماني : وقال الحسن : لم يبعث الله نبياً من أهل البادية ولا من الجن ولا من النساء - انتهى.
وذلك لأن المدن مواضع الحكمة، والبوادي مواطن لظهور الكلمة، ولما كانت مكة أو القرى مدينة، وهي مع ذلك في بلاد البادية، جمعت الأمرين وفازت بالأثرين، لأجل أن المرسل إليها جامع لكل ما تفرق في غيره من المرسلين، وخاتم لجميع النبيين - ـ ﷺ ـ وعليهم أجمعين.