قوله تعالى ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (١٥) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كانت دعوة الأمر واضحة السبل جلية المناهج في جميع كتبه، وكلها إلى الناظرين وبين دعوة الحكم بقوله :﴿ولله﴾ أي الملك الأعلى ﴿يسجد﴾ أي يخضع وينقاد ويتذلل كما بين عند قوله ﴿ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك﴾ [ هود : ١١٩ ] ﴿من في السماوات والأرض﴾ لجميع أحكامه النافذة وأقضيته الجارية ﴿طوعاً﴾ والطوع : الانقياد للأمر الذي يدعى إليه من قبل النفس ﴿وكرهاً﴾ قال الرازي رحمه الله : والكافر في حكم الساجد وإن أباه لما به من الحاجة الداعية إلى الخضوع، واعلم أن سجود كل صنف هو تذلله وتسخره وانقياده لما أريد له، فكل موجود جماد وحيوان عاقل وغير عاقل وروحاني وغير روحاني مسخر لأمر من له الخلق والأمر ؛ وقال الشيخ محيي الدين النووي ـ رضى الله عنهم ـ في شرح المهذب : أصله - أي السجود - الخضوع والتذلل، وكل من تذلل وخضع فقد سجد، وسجود كل موات في القرآن طاعته لما سخر له - هذا أصله في اللغة، ثم قيل لمن وضع جبهته في الأرض : سجد، لأنه غاية الخضوع.
ولما كانت الظلال مسخرة لما أراد سبحانه، لا قدرة لأحد على تغيير ذلك بوجه، قال :﴿وضلالهم﴾ أي أيضاً تسجد له بامتدادها على الأرض، تقصر تارة بارتفاع الشمس وتطول أخرى بانحطاطها، لا يقدرون على منع ظلالهم من ذلك حيث يكون لهم ظلال، وذلك ﴿بالغدو﴾ جمع غداة، وهي البكرة : أول النهار ﴿والآصال﴾ جمع أصيل، دائماً في جميع البلاد، وفي وسط النهار في بعض البلاد ؛ والظل : ستر الشخص ما بإزائه، والفيء : الذي يرجع بعد ذهاب ضوئه، والأصيل : العشيّ ما بين العصر إلى المغرب - كأنه أصل الليل الذي ينشأ منه.