قوله تعالى ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (١٢٨) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما قدم سبحانه في هذه السورة حكاية كثير من استهزائهم بوعده ووعيده، وتكذيبهم لرسله على أبشع وجه، والتفتير عن حرقة الحرص عليهم، المفضي إلى شدة التأسف على ضلالهم وغير ذلك مما ربما أيأس منهم فأقعد عن دعائهم، وأتبعه ضرب الأمثال، ونصب الجدال - على تلك المناهيج المعجزة بما يسبق من ظواهرها إلى الفهم عند قرع السمع من المعاني الجليلة، والمقاصد الجميلة - لعامة الخلق ما يجل عن الوصف، وإذا تأملها الخواص وجدوا فيها من دقائق الحقائق، ومشارع الرقائق، ومحكم الدلائل، ومتقن المقاصد والوسائل، ما يوضح - بتفاوت الأفهام وتباين الأفكار - أنه بحر لا ساحل له ولا قرار، ولا منتهى لما تستخرج منه الأنظار، وختم باتباع الأب الأعظم، لما كان ذلك، وأمر سبحانه نبيه صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو السميع المطيع أن يستن بآثاره، ويقتدي بإضماره وإظهاره، فسر له تلك الملة التي أمره باتباعها فقال تعالى :﴿ادع﴾ أي كل من تمكن دعوته ﴿إلى سبيل ربك﴾ أي المحسن إليك، بتسهيل السبيل الذي تدعو إليه واتساعه، وهو الإسلام الذي هو الملة الحنيفية ﴿بالحكمة﴾ وهي المعرفة بمراتب الأفعال في الحسن والقبح والصلاح والفساد، وقيل لها حكمة لأنها بمنزلة المانع من الفساد وما لا ينبغي أن يختار، فالحكيم هو العالم بما يمنع من الفساد - قاله الرماني، وهي في الحقيقة الحق الصريح، فمن كان أهلاً له دعا به ﴿والموعظة﴾ بضرب الأمثال والوعد والوعيد مع خلط الرغبة بالرهبة والإنذار بالبشارة ﴿الحسنة﴾ أي التي يسهل على كل فهم ظاهرها، ويروق كل نحرير ما ضمنته سرائرها، مع اللين في مقصودها وتأديتها هذا لمن لا يحتمل إلا ذلك ﴿وجادلهم﴾ أي الذين يحتملون ذلك منهم افتلهم عن مذاهبهم الباطلة إلى مذهبك الحق بطريق الحجاج ﴿بالتي هي أحسن﴾ من الطرق بالترفق واللين والوقار والسكينة، ولا تعرض عنهم يأساً منهم، ولا تجازهم بسيىء مقالهم وقبيح فعالهم صفحاً


الصفحة التالية
Icon