قوله تعالى ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (١١١) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١١٢) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان توليهم بعد هذه القواطع مستبعد، أشار إلى ذلك بإيراده بأداة الشك فقال :﴿فإن تولوا﴾ أي لم يقبلوا ما دعوتهم إليه ﴿فقل﴾ أي لهم :﴿ءاذنتكم﴾ أي أعلمتكم ببراءتي منكم وأني غير راجع إليكم أبداً كما أنكم تبرأتم مني ولم ترجعوا إليّ، فصار علمكم أن لا صلح بيننا مع التولي كعلمي وعلم من اتبعني.
لتتأهبوا لجميع ما تظنونه ينفعكم، فهو كمن بينه وبين أعدائه هدنة فأحس منهم بغدره، فنبذ إليهم العهد، شهر ذلك النبذ وأشاعه فلم يخفه عن أحد منهم، وهو مما اشتهر أنه بلغ النهاية في الفصاحة والوجازة، أو أبلغتكم جميع ما أرسلت به ولم أخص به أحداً دون أحد، وهذا كله معنى ﴿على سواء﴾ أي إيذاناً مستعلياً على أمر نصف وطريق عدل، ليس فيه شيء من خفاء ولا غش ولا خداع ولا عذر، بل نستوي فيه نحن وأنتم.
ولما كان من لازم البراءة من شخص الإيقاع به كان موضع أن يقولوا هزؤاً على عادتهم : نبذت إلينا على سواء فعجل لنا ما تتوعدنا به، فقال :﴿وإن﴾ أي وما ﴿أدري أقريب﴾ جداً بحيث يكون قربه على ما تتعارفونه ﴿أم بعيد ما توعدون﴾ من عذاب الله في الدنيا بأيدي المسلمين أو بغيره، أو في الآخرة مع العلم بأنه كائن لا محالة، وأنه لا بد أن يلحق من أعراض عن الله الذل والصغار.
ولما كان من المقطوع به من كون الشك إنما هو في القرب أو البعد أن يكون التقدير : لكنه محقق الوجود، لأن الله واحد لا شريك له، وقريب عند الله، لأن كل ما حقق إيجاده قريب، علله بقوله :﴿إنه﴾ أي الله تعالى ﴿يعلم الجهر﴾ ولما كان الجهر قد يكون في الأفعال، بينه بقوله :﴿من القول﴾ مما تجاهرونه به من العظائم وغير ذلك، ونبه الله تعالى على ذلك لأن من أحوال الجهر أن ترتفع الأصوات جداً بحيث تختلط ولا يميز بينها ولا يعرف كثير من حاضريها ما قاله أكثر القائلين، فأعلم سبحانه أنه لا يشغله صوت عن آخر ولا يفوته شيء عن ذلك ولو كثر ﴿ويعلم ما تكتمون﴾ مما تضمرونه من المخازي كما قال تعالى أولها ﴿قل ربي يعلم القول في السماء والأرض﴾ ومن لازم ذلك المجازاة عليه بما يحق لكم من تعجيل وتأجيل، فستعلمون كيف يخيب ظنونكم ويحقق ما أقول، فتقطعون بأني صادق عليه ولست بساحر، ولا حالم ولا كاذب ولا شاعر، فهو من أبلغ التهديد فإنه لا أعظم من التهديد بالعلم.