قوله تعالى ﴿ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (٦٨) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما تقدم ذكر المناسك، وكان لكثرة الكفار قد يقع في النفس أن إقامتها معجوز عنها، وكشف سبحانه غمة هذا السؤال بآية ﴿إن الله يدافع عن الذين آمنوا﴾ وما بعدها، فأنتج ذلك علمنا بتصرفه التام بقدرته الباهرة، وعلمه الشامل المقتضي لإقبال العباد إليه، واجتماعهم كلهم عليه، فمن شك في قدرته على إظهار دينه بمدافعته عن أهله، أو نازع فيه فهو كفور، ذكر بإظهار أول هذا الخطاب بآخر ذلك الخطاب مؤكداً لما أجاب به عن ذلك السؤال من تمام القدرة وشمول العلم أنه هو الذي مكن لكل قوم ما هم فيه من المناسك التي بها انتظام الحياة، فإن وافقت الأمر الإلهي كانت سبباً للحياة الأبدية، وإلا كانت سبباً للهلاك الدائم، وهو سبحانه الذي نصب من الشرائع لكل قوم ما يلائمهم، لأنه بتغيير الزمان بإيلاج الليل في النهار على مر الأيام وتوالي الشهور والأعوام، بسبب من الأسباب - لأجل امتحان العباد، وإظهار ما خبأ في جبلة كل منهم من طاعة وعصيان، وشكر وكفران - ما يصير الفعل مصلحة بما يقتضيه من الأسباب بعد أن كان مفسدة وبالعكس، لاقتداره على كل شيء وإظهار اقتداره كما قال تعالى عند أول ذكره للنسخ
﴿ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير﴾ [ البقرة : ١٠٦ ] الآيات، فعلم أن منازعتهم فيه كفر، فلذلك أتبع هذا قوله من غير عاطف لما بينهما من تمام الاتصال :﴿لكل أمة﴾ أي في كل زمان ﴿جعلنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿منسكاً﴾ أي شرعاً لاجتماعهم به على خالقهم حيث وافق أمره، ولاجتماعهم على أهوائهم إذا لم يوافقه، وعن ابن جرير أن أصل المنسك في كلام العرب هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه إما لخير أو لشر.


الصفحة التالية
Icon