قوله تعالى ﴿ وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (٣٨) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (٣٩) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (٤٠) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان فساد ما قاله فرعون أظهر من أن يحتاج إلى بيان، أعرض المؤمن عنه تصريحاً، ولوّح إلى ما حكاه الله عنه من أنه محيط به الهلاك تلويحاً في قوله منادياً قومه ومستعطفاً لهم ثلاث مرات : الأولى على سبيل الإجمال في الدعوة، والأخريان على سبيل التفصيل، فقال تعالى عنه :﴿وقال الذي آمن﴾ أي مشيراً إلى وهي قول فرعون بالإعراض عنه، وعبر بالفعل إشارة إلى أنه ينبغي لأدنى أهل الإيمان أن لا يحقر نفسه عن الوعظ :﴿يا قوم﴾ أي يا من لا قيام لي إلا بهم فأنا غير متهم في نصيحتهم ﴿اتبعون﴾ أي كلفوا أنفسكم اتباعي لأن السعادة غالباً تكون فيما يكره الإنسان ﴿أهدكم سبيل﴾ أي طريق ﴿الرشاد﴾ أي الهدى لأنه مع سهولته واتساعه موصل ولا بد إلى المقصود، وأما ما قال فرعون مدعياً أنه سبيل الرشاد لا يوصل إلا إلى الخسار، فهو تعريض به شبيه بالتصريح.
ولما كان هذا دعاء على سبيل الإجمال، وكان الداء كله في الإقبال على الفاني، والدواء كله في الإقدام على الباقي، قال استئنافاً في جواب من سأل عن تفصيل هذه السبيل مبيناً أنها العدول عما يفنى إلى ما يبقى محقراً للدنيا مصغراً لشأنها لأن الإخلاد إليها أصل الشر كله، ومنه يتشعب ما يؤدي إلى سخط الله ﴿يا قوم﴾ كرر ذلك زيادة في استعطافهم بكونهم أهله فهو غير متهم في نصحهم لأنه لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه.
ولما كانت الأنفس لكونها مطبوعة على الوهم لا تعد الحاصل إلا الحاضر أكد فقال :﴿إنما هذه الحياة﴾ وحقرها بقوله :﴿الدنيا﴾ إشارة إلى دناءتها وبقوله :﴿متاع﴾ إشارة إلى أنها جيفة لأنها في اللغة من جملة مدلولات المتاع، فلا يتناول منها إلا كما يتناول المضطر من الجيفة لأنها دار القلعة والزوال والتزود والارتحال.


الصفحة التالية
Icon