قوله تعالى ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٥) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (٦٦) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما تقرر أنه سبحانه ربنا وحده، وأن مدعي ربوبية ما سواه معاند، لأنه سبحانه متميز بأفعاله التي لا يشاركه فيها أحد، دل على ذلك بوجه مركوز في الطبائع صحته، واضح في العقول معرفته، كالمعلل لتسمية هذا الإنكار جحوداً، فقال دالاً بالخافقين بعد الدلالة بما نشأ عنهما من الملوين، وأخر هذا لأنه مع كونه أجلى سبب بقرارية الأرض وفلكية السماء لذاك، بما حصل فيه من الاختلاف، فقال :﴿الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء ﴿الذي جعل﴾ أي وحده ﴿لكم الأرض﴾ أي مع كونها فراشاً ممهداً ﴿قراراً﴾ مع كونها في غاية الثقل، ولا ممسك لها سوى قدرته ﴿والسماء﴾ على علوها وسعتها مع كونها افلاكاً دائرة بنجوم طول الزمان سائرة، ينشأ عنها الليل والنهار والإظلام والإبصار ﴿بناء﴾ مظلة كالقبة من غير عماد حامل، ومن المعلوم لكل ذي عقل أن الأجسام الثقيلة تقتضي بطبعها تراص بعضها على بعض، فلا يمنع بعضها من السقوط على بعض إلا بقوة وقسر، فالآية من الاحتباك : ذكر القرار أولاً دليلاً على الدوران ثانياً، والبناء ثانياً دليلاً على الفراش أولاً.
ولما ذكر المسكين ذكر الساكن دالاً على أنه الفاعل في الكل باختياره وتمام قدرته بتصويره الإنسان بصورة لا يشبهها صورة شيء من الحيوانات، وفاوت بين أفراده في هيئة تلك الصورة على أنحاء لا تكاد تنضبط في نفسها، ولا تشبه واحدة منها الأخرى، ولا في الخافقين شيء يشبهها محال تصويرها عليه فقال :﴿وصوركم﴾ والتصوير على غير نظام واحد لا يكون بقدرة قادر تام القدرة مختار لا كما يقول أهل الطبائع ﴿فأحسن صوركم﴾ على أشكال وأحوال مع أنها أحسن الصور ليس في الوجود ما يشبهها، وليس فيها صورة تشبه الأخرى لتسدوا انطباع تصويرها إليه، فثبت قطعاً أنه هو المصور سبحانه على غير مثال كما أنه الذي أبدع الموجود كله كذلك.