قوله تعالى ﴿ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (٢٧) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان من مقاصد هذه السورة العظمى الإعلام بنسخ الشرائع كلها بشريعة هذا النبي الفاتح العام الرسالة لجميع الخلائق ـ ﷺ ـ، قال مشيراً إلى عظمة الإرسال والرسل بأداة التراخي :﴿ثم قفينا﴾ أي بما لنا من العظمة تقفية لها من العظمة ما يجل وصفه ﴿على آثارهم﴾ أي الأبوين المذكورين ومن مضى قبلهما من الرسل، ولا يعود الضمير على ﴿الذرية﴾ لأنها باقية مع الرسل وبعدهم ﴿برسلنا﴾ أي فأرسلناهم واحداً في أثر واحد بين ما لا يحصى من الخلق من الكفرة محروسين منهم في الأغلب بما تقتضيه العظمة، لا ننشئ آثار الأول منهم حتى نرسل الذي بعده في قفاه، فكل رسول بين يدي الذي بعده، والذين بعده في قفاه - فهو مقف له لأن الأول ذاهب إلى الله والثاني تابع له، فنبينا ـ ﷺ ـ أعرق الناس في هذا الوصف لأنه لا نبي بعده، ولهذا كان الوصف أحد أسمائه.
ولما كان عيسى عليه السلام أعظم من جاء بعد موسى عليه السلام من بني إسرائيل فهو الناسخ لشريعته والمؤيد به هذا النبي الخاتم ـ ﷺ ـ في تجديد دينه وتقرير شريعته، وكان الزهد والرأفة والرحمة في تابعيه في غاية الظهور مع أن ذلك لم يمنعهم من القسوة المنبهة سابقاً على أن الموجب لها طول الأمد الناشئ عنها الإعراض عن الآيات الحاضرة معه والكتاب الباقي بعده، خصه بالذكر وأعاد العامل فقال :﴿وقفينا﴾ أي أتبعنا بما لنا من العظمة على آثارهم قبل أن تدرس ﴿بعيسى ابن مريم﴾ وهو آخر من قبل النبي الخاتم عليهم الصلاة والسلام، فأمته أول الأمم بالأمر باتباعه ـ ﷺ ـ ﴿وآتيناه﴾ بما لنا من العظمة ﴿الإنجيل﴾ كتاباً ضابطاً لما جاء به مقيماً لملته مبيناً للقيامة مبشراً بالنبي العربي موضحاً لأمره مكثراً من ذكره ﴿وجعلنا﴾ لعزتنا ﴿في قلوب الذين اتبعوه﴾ أي بغاية جهدهم، فكانوا على مناهجه ﴿رأفة﴾ أي أشد رقة على من كان يتسبب إلى الاتصال بهم ﴿ورحمة﴾ أي رقة وعطفاً من لم يكن له سبب في الصلة بهم كما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم رحماء بينهم حتى كانوا أذلة على المؤمنين مع أن قلوبهم في غاية الصلابة فهم أعزة على الكافرين، وترتيب الوصفين هكذا أدل دليل على أنهما لم يقصد بهما مراعاة الفواصل في ﴿رؤف رحيم﴾ كما قاله بعض المفسرين وتقدم في آخر براءة أن ذلك قول لا يحل التصويب إليه ولا التعويل عليه وإن قاله من قال ﴿ورهبانية﴾ أي أموراً حاملة على الرهبية والتزيي بزيها والعمل على حسبها مبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس.


الصفحة التالية
Icon