قوله تعالى ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (٢٠) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (٢١) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ذكر بمصارع الأولين، وكان التذكير بالحاصب تذكيراً لقريش بما حصب به على قرب الزمان عدوهم أصحاب الفيل بما أرسل عليهم من الطير الأبابيل تحذيراً لهم من ذلك إن تمادوا على كفره، ولم ينقادوا إلى شكره، فكان التقدير تقريراً لزيادة قدرته وحسن تدبيره ولطف تربيته حيث جبر الطير لضعفها بالطيران ليكمل بعموم رحمانيته أمر معاشها تقريراً لأن بيده الملك وترهيباً من أن ينازعه أحد في تدبيره مع تبقية القول مصروفاً عن خطابهم، إيذاناً بشدة حسابهم وسوء منقلبهم ومآبهم ؛ ألم يروا إلى قدرتنا على مصارع الأولين وإهلاك المكذبين وإنجاء المؤمنين، عطف عليه قوله معرضاً عنهم زيادة في الإنذار بالحصب من الطير وغيرها :﴿أو لم يروا﴾ وأجمع القراء على القراءة هنا بالغيب لأن السياق للرد على المكذبين بخلاف ما في النحل.
وأشار إلى بعد الغاية بحرف النهاية فقال :﴿إلى الطير﴾ وهو جمع طائر.
ولما كان الجو كله مباحاً للطيران نزع الجار فقال :﴿فوقهم﴾ وبين حال الطير في الفوقية بقوله واصفاً لها بالتأنيث إشارة إلى ضعفها في أنفسها لولا تقويته لها ﴿صافات﴾ أي باسطات أجنحتها تمدها غاية المد بحيث تصير مستوية لا اعوجاج فيها مع أنه إذا كان جماعة منها كانت صفوفاً أو صفاً واحداً في غاية الانتظام تابعة لإمام منها.
ولما عبر عن الصف بالاسم لأنه الأصل الثابت، عبر عن التحريك بالفعل لأن الطيران في ساحة الهواء كالسباحة في باحة الماء، والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، والبقض طارىء على البسط فقال :﴿ويقبضن﴾ أي يوقعن قبض الأجنحة وبسطها وقتاً بعد وقت للاستراحة والاستظهار به على السبح في الهواء.
ولما تم هذا التقدير على هذا الوجه الرائع للقلوب ترجمه بقوله :﴿ما يمسكهن﴾ أي في الجو في حال القبض والبسط عن السقوط على خلاف ما يقتضيه الطبع.