قوله تعالى ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٠) ﴾
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان ربما تغالى بعض الناس في العبادة وشق على نفسه، وربما شق على غيره، أشار سبحانه وتعالى إلى الاقتصاد تخفيفاً لما يلحق الإنسان من النصب، مشيراً إلى ما يعمل حالة اتصال الروح بالجسد وهي حالة الحياة، لأن منفعتها التزود من كل خير لما أدناه هول المقابر، فإن الروح في غاية اللطافة، والسجد في غاية الكثافة، لأنها من عالم الأمر، وهو ما يكون الإيجاد فيه بمرة واحدة من غير تدريج وتطوير والجسد من عالم الخلق فهي غريبة فيه تحتاج إلى التأنيس وتأنيسها بكل ما يقربها إلى العالم الروحاني المجرد عن علائق الأجسام، وذلك بصرف القلب كله عن هذه الدنايا والتلبس بالأذكار والصلوات وجميع الأعمال الصالحات، فإن ذلك هو المعين على اتصالها بعالمها العالي العزيز الغالي، وأعون ما يكون على ذلك الحكمة، وهي العدل في الأعمال والاقتصاد في الأقوال والأفعال، فقال مستأنفاً الجواب عن تيسير السبيل وبنائه على الحنيفية السمحة بحيث صار لا مانع منه إلا يد القدرة ﴿إن ربك﴾ أي المدبر لأمرك على ما يكون إحساناً إليك ورفقاً بك وبأمتك ﴿يعلم أنك تقوم﴾ أي في الصلاة كما أمرت به أول السورة.
ولما كانت كثرة العمل ممدوحة وقلته بخلاف ذلك، استعار للأقل قوله :﴿أدنى﴾ أي زماناً أقل، والأدنى مشترك بين الأقرب، والأدون للأنزل رتبة لأن كلاًّ منهما يلزم منه قلة المسافة ﴿من ثلثي الّيل﴾ في بعض الليالي ﴿ونصفه وثلثه﴾ أي وأدنى من كل منهما في بعض الليالي - هذا على قراءة الجماعة، والمعنى، على قراءة ابن كثير والكوفيين بالنصب تعيين النصف والثلث الداخل تحت الأدنى من الثلثين، وهو على القراءتين مطابق لما وقع التخيير فيه في أول السورة بين قيام النصف بتمامه أو الناقص منه وهو الثلث أو الزائد عليه وهو الثلثان، أو الأقل من الأقل من النصف وهو الربع.