لباب التأويل، ج ٤، ص : ١٢٧
سورة الأحقاف
مكية وقيل غير قوله قُلْ أَرَأَيْتُمْ وقيل وقوله فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ فإنهما نزلتا بالمدينة وهي أربع وقيل خمس وثلاثون آية وستمائة وأربع وأربعون كلمة وألفان وخمسمائة وخمسة وتسعون حرفا.

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

[سورة الأحقاف (٤٦) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤)
وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (٦) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٨)
قوله عز وجل : حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ أي بالعدل وَأَجَلٍ مُسَمًّى يعني يوم القيامة وهو الأجل الذي ينتهي إليه فناء السموات والأرض وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا أي خوفوا به في القرآن من البعث والحساب مُعْرِضُونَ أي لا يؤمنون به قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني الأصنام أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أي بكتاب جاءكم من اللّه قبل القرآن فيه بيان ما تقولون أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أي بقية من علم يؤثر عن الأولين ويسند إليهم وقيل برواية عن علم الأنبياء وقيل علامة من علم وقيل هو الخط وهو خط كانت العرب تخطه في الأرض إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في أن للّه شريكا وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ يعني الأصنام لا تجيب عابد بها إلى شيء يسألونها إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعني لا تجيب أبدا ما دامت الدنيا وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ يعني لأنها جمادات لا تسمع ولا تفهم وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ أي جاحدين وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ سموا القرآن سحرا أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ أي اختلق القرآن محمد من قبل نفسه قال اللّه عز وجل قُلْ يا محمد إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي لا تقدرون أن تردوا عني عذابه إن عذبني على افترائي فكيف أفتري على اللّه من أجلكم هُوَ أَعْلَمُ أي اللّه أعلم بِما تُفِيضُونَ فِيهِ أي تخوضون فيه من التكذيب بالقرآن لباب التأويل في معاني
التنزيل، ج ٤، ص : ١٢٨
والقول فيه أنه سحر كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي إن القرآن جاء من عنده وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أي في تأخير العذاب عنكم وقيل هو دعاء لهم إلى التوبة ومعناه أنه غفور لمن تاب منكم رحيم به.
[سورة الأحقاف (٤٦) : آية ٩]
قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٩)
قوله تعالى : قُلْ يا محمد ما كُنْتُ بِدْعاً أي بديعا مِنَ الرُّسُلِ أي لست بأول مرسل قد بعث قبلي كثير من الأنبياء فكيف تنكرون نبوتي وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ اختلف العلماء في معنى هذه الآية فقيل معناه ما أدري ما يفعل بي ولا بكم يوم القيامة ولما نزلت هذه الآية فرح المشركون وقالوا واللات والعزى ما أمرنا وأمر محمد عند اللّه إلا واحد وما له علينا من مزية وفضل ولولا أنه ابتدع ما يقوله من ذات نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به فأنزل اللّه عز وجل : لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ فقالت الصحابة هنيئا لك يا نبي اللّه قد علمت ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فأنزل اللّه عز وجل : لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ الآية وأنزل وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً فبين اللّه ما يفعل به وبهم وهذا قول أنس وقتادة والحسن وعكرمة قالوا : إنما قال هذا قبل أن يخبر بغفران ذنبه وإنما أخبر بغفران ذنبه عام الحديبية فنسخ ذلك (خ) عن خارجة بن زيد بن ثابت أن أم العلاء امرأة من الأنصار وكانت بايعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم أخبرته أنه اقتسم المهاجرون قرعة قالت فطار لنا عثمان بن مظعون فأنزلناه في أبياتنا فوجع وجعه الذي توفي فيه فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه دخل عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فقلت : رحمة اللّه عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك اللّه فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : وما يدريك أن اللّه أكرمه، فقلت : بأبي أنت يا رسول اللّه فمن يكرمه اللّه فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم :
أما هو فقد جاءه اليقين واللّه إني لأرجو له الخير واللّه ما أدري وأنا رسول اللّه ما يفعل بي قالت فو اللّه لا أزكي بعده أحد يا رسول قالت ورأيت لعثمان في النوم عينا تجري فجئت رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فذكرت ذلك له فقال ذاك عمله» وفي رواية غير البخاري قالت «لما قدم المهاجرون المدينة اقترعت الأنصار على سكناهم قالت فطار لنا عثمان بن مظعون وفيه واللّه ما أدري وأنا رسول اللّه ما يفعل بي ولا بكم وقيل في معنى قوله ما أدري ما يفعل بي ولا بكم هذا في الدنيا أما في الآخرة فقد علم أنه في الجنة وأن من كذبه في النار» فعلى هذا الوجه فقد اختلفوا فيه فقال ابن عباس لما اشتد البلاء بأصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم «رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في المنام وهو بمكة أرض ذات سباخ ونخل رفعت له يهاجر إليها فقال له أصحابه متى تهاجر إلى الأرض التي أريت فسكت فأنزل اللّه هذه الآية وما أدري ما يفعل بي ولا بكم أأترك في مكاني أم أخرج وأنا وأنتم إلى الأرض التي رفعت لي وقيل «لا أرى إلى ماذا يصير أمري وأمركم في الدنيا أما أنا فلا أدري أخرج كما أخرجت الأنبياء من قبلي أم أقتل كما قتل بعض الأنبياء من قبلي وأما أنتم أيها المصدقون فلا أدري أتخرجون معي أم تتركون أم ماذا يفعل بكم ولا أدري ما يفعل بكم أيها المكذبون أترمون بالحجارة من السماء أم يخسف بكم أم أي شيء يفعل بكم مما فعل بالأمم المكذبة ثم أخبره اللّه عز وجل أن يظهر دينه على الأديان كلها فقال تعالى هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله» وقال في أمته «و ما كان اللّه ليعذبهم وأنت فيهم وما كان اللّه معذبهم وهم يستغفرون» فأعلمه ما يصنع به وبأمته وقيل معناه لا أدري إلى ماذا يصير أمري وأمركم ومن الغالب والمغلوب ثم أخبره أنه يظهر دينه على الأديان وأمته على سائر الأمم.
وقوله : إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ معناه ما أتبع غير القرآن الذي يوحى إليّ ولا أبتدع من عندي شيئا وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي أنذركم العذاب وأبين لكم الشرائع.


الصفحة التالية
Icon