لباب التأويل، ج ٤، ص : ٤٢٩
سورة البلد
(مكية وهي عشرون آية، واثنتان وثمانون كلمة، وثلاثمائة وعشرون حرفا) بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
[سورة البلد (٩٠) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤)
قوله عزّ وجلّ : لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ تقدم الكلام على قوله لا أقسم في أول سورة القيامة، والبلد هي مكة في قول جميع المفسرين. وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أي مقيم به، نازل فيه، فكأنه عظّم حرمة مكة من أجل أنه صلّى اللّه عليه وسلّم مقيم بها وقيل حل أي حلال، والمعنى أحلت لك تصنع فيها ما تريد من القتل، والأسر، ليس عليك ما على الناس من الإثم في استحلالها، أحل اللّه عزّ وجلّ له مكة يوم الفتح حتى قاتل، وأمر بقتل ابن خطل، وهو متعلق بأستار الكعبة، ومقيس بن صبابة وغيرهما، وأحل دماء قوم، وحرم دماء قوم آخرين، فقال من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ثم قال بعد ذلك إن اللّه حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، ولم تحل لأحد قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار فهي حرام بحرمة اللّه إلى يوم القيامة، والمعنى أن اللّه تعالى لما أقسم بمكة دل ذلك على عظم قدرها، وشرفها، وحرمتها، ومع ذلك فقد وعد نبيه صلّى اللّه عليه وسلّم، أنه يحلها له حتى يقاتل فيها، وأن يفتحها على يده، فهذا وعد من اللّه تعالى في الماضي، وهو مقيم بمكة أن يفتحها عليه في المستقبل بعد الهجرة، وخروجه منها، فكان كما وعده، وقيل في معنى قوله وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ، أي أنهم يحرمون أن يقتلوا به صيدا، ويستحلون قتلك فيه، وإخراجك منه.
وَوالِدٍ وَما وَلَدَ يعني آدم وذريته أقسم اللّه تعالى بمكة لشرفها، وحرمتها، وبآدم، وبالأنبياء والصالحين من ذريته، لأن الكافر وإن كان من ذريته فلا حرمة له حتى يقسم به، وجواب القسم قوله تعالى : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ قال ابن عباس : في نصب، وقيل يكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة، وعنه أيضا قال : في شدة من حمله، وولادته، ورضاعه، وفطامه، وفصاله، ومعاشه، وحياته، وموته وأصل الكبد الشدة، وقيل لم يخلق اللّه خلقا يكابد، ما يكابد ابن آدم، وهو مع ذلك أضعف الخلق، وعن ابن عباس أيضا قال : الكبد الاستواء، والاستقامة، فعلى هذا يكون المعنى، خلقنا الإنسان منتصبا معتدل القامة، وكل شيء من الحيوان يمشي منكبا، وقيل منتصبا، رأسه في بطن أمه فإذا أذن اللّه في خروجه انقلب رأسه إلى أسفل، وقيل في كبد أي في قوة نزلت في أبي الأشد أسيد بن كلدة بن جمح، وكان شديدا قويا يضع الأديم العكاظي تحت قدميه، ويقول من أزالني عنه فله كذا وكذا فلا يطاق أن ينزع من تحت قدميه إلا قطعا، ويبقى من ذلك الأديم بقدر موضع قدميه.


الصفحة التالية
Icon