البحر المحيط، ج ١، ص : ١٥٣
انتهى كلامه.
وروي عن ابن عباس ومجاهد وعلقمة أنهم قالوا : كل شيء نزل فيه : يا أَيُّهَا النَّاسُ فهو مكي، ويا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فهو مدني. أما في يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فصحيح، وأما في يا أَيُّهَا النَّاسُ فيحمل على الغالب، لأن هذه السورة مدنية، وقد جاء فيها يا أيها الناس. وأي في أيها منادى مفرد مبني على الضم، وليست الضمة فيه حركة إعراب خلافا للكسائي والرياشي، وهي وصلة لنداء ما فيه الألف واللام ما لم يمكن أن ينادى توصل بنداء أي إلى ندائه، وهي في موضع نصب، وهاء التنبيه كأنها عوض مما منعت من الإضافة وارتفع الناس على الصفة على اللفظ، لأن بناء أي شبيه بالإعراب، فلذلك جاز مراعاة اللفظ، ولا يجوز نصبه على الموضع، خلافا لأبي عثمان. وزعم أبو الحسن في أحد قوليه أن أيا في النداء موصولة وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ محذوف، فإذا قال : يا أيها الرجل، فتقديره : يا من هو الرجل. والكلام على هذا القول وقول أبي عثمان مستقصى في النحو.
اعبدوا ربكم : ولما واجه تعالى الناس بالنداء أمرهم بالعبادة، وقد تقدم تفسيرها في قوله تعالى : إِيَّاكَ نَعْبُدُ، والأمر بالعبادة شمل المؤمنين والكافرين. لا يقال : المؤمنون عابدون، فكيف يصح الأمر بما هم ملتبسون به؟ لأنه في حقهم أمر بالازدياد من العبادة، فصح مواجهة الكل بالعبادة، وانظر لحسن مجيء الرب هنا، فإنه السيد والمصلح، وجدير بمن كان مالكا أو مصلحا أحوال العبد أن يخص بالعبادة ولا يشرك مع غيره فيها. والخطاب، إن كان عاما، كان قوله : الَّذِي خَلَقَكُمْ صفة مدح، وإن كان لمشركي العرب كانت للتوضيح، إذ لفظ الرب بالنسبة إليهم مشترك بين اللّه تعالى وبين آلهتهم، ونبه بوصف الخلق على استحقاقه العبادة دون غيره، أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ «١»، أو على امتنانه عليهم بالخلق على الصورة الكاملة، والتمييز عن غيرهم بالعقل، والإحسان إليهم بالنعم الظاهرة والباطنة، أو على إقامة الحجة عليهم بهذا الوصف الذي لا يمكن أن يشرك معه فيه غيره، ووصف الربوبية والخلق موجب للعبادة، إذ هو جامع لمحبة الاصطناع والاختراع، والمحب يكون على أقصى درجات الطاعة لمن يحب. وقالوا : المحبة ثلاث، فزادوا محبة الطباع كمحبة الوالد لولده، وأدغم أبو عمرو خلقكم، وتقدّم تفسير الخلق في اللغة، وإذا كان بمعنى الاختراع والإنشاء فلا يتصف به إلا اللّه تعالى.

_
(١) سورة النمل : ١٦/ ١٧. [.....]


الصفحة التالية
Icon