البحر المحيط، ج ١، ص : ٢٦٣
ولما كان أمرا بالهبوط من الجنة إلى الأرض، وكان في ذلك انحطاط رتبة المأمور، لم يؤنسه بالنداء، ولا أقبل عليه بتنويهه بذكر اسمه. والإقبال عليه بالنداء بخلاف قوله : وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ، والمخاطب بالأمر آدم وحوّاء والحية، قاله أبو صالح عن ابن عباس، أو هؤلاء وإبليس، قاله السدي عن ابن عباس، أو آدم وإبليس، قاله مجاهد، أو هما وحواء، قاله مقاتل، أو آدم وحواء فحسب. ويكون الخطاب بلفظ الجمع وإن وقع على التثنية نحو :
وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ «١»، ذكره ابن الأنباري، أو آدم وحواء والوسوسة، قاله الحسن، أو آدم وحواء وذريتهما، قاله الفراء، أو آدم وحواء، والمراد هما وذريتهما، ورجحه الزمخشري قال : لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم. والدليل عليه قوله : قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ «٢»، ويدل على ذلك قوله : فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ الآية، وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم، انتهى. وفي قول الفراء خطاب من لم يوجد بعد، لأن ذريتهما كانت إذ ذاك غير موجودة. وفي قول من أدخل إبليس معهما في الأمر ضعف، لأنه كان خرج قبلهما، ويجوز على ضرب من التجوز. قال كعب ووهب :
أهبطوا جملة ونزلوا في بلاد متفرقة. وقال مقاتل : أهبطوا متفرقين، فهبط إبليس، قيل بالأبلة، وحواء بجدّة، وآدم بالهند، وقيل : بسرنديب بجبل يقال له : واسم. وقيل : كان غذاؤه جوز الهند، وكان السحاب يمسح رأسه فأورث ولده الصلع. وهذا لا يصح إذ لو كان كذلك لكان أولاده كلهم صلعا.
وروي عن ابن عباس : أن الحية أهبطت بنصيبين. وروى الثعلبي : بأصبهان، والمسعودي : بسجستان، وهي أكثر بلاد اللّه حيات. وقيل : ببيسان. وقيل : كان هذا الهبوط الأول من الجنة إلى سماء الدنيا. وقيل : لما نزل آدم بسرنديب من الهند ومعه ريح الجنة، علق بشجرها وأوديتها، فامتلأ ما هناك طيبا، فمن ثم يؤتى بالطيب من ريح آدم عليه السلام. وذكر أبو الفرج بن الجوزي في إخراجه كيفية ضربنا صفحا عن ذكرها، قال :
وأدخل آدم في الجنة ضحوة، وأخرج منها بين الصلاتين، فمكث فيها نصف يوم، والنصف خمسمائة عام، مما يعد أهل الدنيا، والأشبه أن قوله : اهبطوا أمر تكليف، لأن فيه مشقة شديدة بسبب ما كانا فيه من الجنة، إلى مكان لا تحصل فيه المعيشة إلا بالمشقة، وهذا يبطل قول من ظن أن ذلك عقوبة، لأن التشديد في التكليف يكون بسبب الثواب. فكيف يكون عقابا مع ما في هبوطه وسكناه الأرض من ظهور حكمته الأزلية في ذلك، وهي نشر
(١) سورة الأنبياء : ٢١/ ٧٨.
(٢) سورة طه : ٢٠/ ١٢٣.