البحر المحيط، ج ١، ص : ٥٤٥
وقوله : لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ «١»، وأن الأصل هو الرفع، أي ولا المشركون، عطفا على الذين كفروا، وهذا حديث من قصر في العربية، وتطاول إلى الكلام فيها بغير معرفة، وعدل عن حمل اللفظ على معناه الصحيح وتركيبه الفصيح. ودخلت لا في قوله : ولا المشركين، للتأكيد، ولو كان في غير القرآن لجاز حذفها. ولم تأت في قوله : لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ لمعنى يذكر هناك، إن شاء اللّه تعالى.
أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ : في موضع المفعول بيود، وبناؤه للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وللتصريح به في قوله : مِنْ رَبِّكُمْ. ولو بني للفاعل لم يظهر في قوله : مِنْ رَبِّكُمْ. مِنْ خَيْرٍ، من : زائدة، والتقدير : خير من ربكم، وحسن زيادتها هنا، وإن كان ينزل لم يباشره حرف النفي، فليس نظير : ما يكرم من رجل، لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى، لأنه إذا نفيت الودادة، كان كأنه نفى متعلقها، وهو الإنزال، وله نظائر في لسان العرب، من ذلك قوله تعالى : أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ «٢». فلما تقدّم النفي حسن دخول الباء، وكذلك قول العرب : ما ظننت أحدا يقول ذلك إلا زيد، بالرفع على البدل من الضمير المستكن في يقول، وإن لم يباشره حرف النفي، لأن المعنى : ما يقول ذلك أحد إلا زيد، فيما أظن. وهذا التخريج هو على قول سيبويه والخليل. وأما على مذهب الأخفش والكوفيين في هذا المكان، فيجوز زيادتها، لأنهم لا يشترطون انتفاء الحكم عما تدخل عليه، بل يجيزون زيادتها في الواجب وغيره. ويزيد الأخفش : أنه يجيز زيادتها في المعرفة. وذهب قوم إلى أن من للتبعيض، ويكون على هذا المفعول الذي لم يسم فاعله هو عليكم، ويكون المعنى : أن ينزل عليكم بخير من الخير من ربكم.
مِنْ رَبِّكُمْ : من : لابتداء الغاية، كما تقول : هذا الخير من زيد. ويجوز أن تكون للتبعيض. المعنى من خير كائن من خيور ربكم، فإذا كانت لابتداء الغاية تعلقت بقوله :
ينزل، وإذا كانت للتبعيض تعلقت بمحذوف، وكان ذلك على حذف مضاف، كما قدّرناه.
والخير هنا : القرآن، أو الوحي، إذ يجمع القرآن وغيره، أو ما خص به رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم من التعظيم أو الحكمة والقرآن والظفر أو النبوة والإسلام، أو العلم والفقه والحكمة أو هنا
(١) سورة البينة : ٩٨/ ١.
(٢) سورة الأحقاف : ٤٦/ ٣٣.