البحر المحيط، ج ١، ص : ٥٦١
المريد إقامة المواصلات وإدامة التوسل بفنون القربات، واثقا بأن ما تقدمه من صدق المجاهدات ستزكو ثمرته في آخر الحالات، وأنشدوا :
سابق إلى الخير وبادر به فإنما خلفك ما تعلم
وقدم الخير فكل امرئ على الذي قدمه يقدم
وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى : سبب نزولها اختصام نصارى نجران ويهود المدينة، وتناظرهم بين يدي الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم. فقالت اليهود : لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ، وقالت النصارى : لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ، وكفروا بالتوراة وموسى، قاله ابن عباس. والضمير في وقالوا عائد على أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ولفهم في القول، لن يدخل الجنة، لأن القول صدر من الجميع، باعتبار أن كل فريق منهما قال ذلك، لا أن كل فرد فرد قال ذلك حاكما على أن حصر دخول الجنة على كل فرد فرد من اليهود والنصارى، ولذلك جاء في العطف بأو التي هي للتفصيل والتنويع، وأوضح ذلك العلم بمعاداة الفريقين، وتضليل بعضهم بعضا، فامتنع أن يحكم كل فريق على الآخر بدخول الجنة، ونظيره في لف الضمير، وفي كون أو للتفصيل قوله : وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا، إذ معلوم أن اليهودي لا يأمر بالنصرانية، ولا النصراني يأمر باليهودية، ولما كان دخول الجنة متأخرا، جاء النفي بلن المخلصة للاستقبال، ومن فاعلة بيدخل، وهو من الاستثناء المفرّغ، والمعنى : لن يدخل الجنة أحد إلا من. ويجوز أن تكون على مذهب الفراء بدلا، أو يكون منصوبا على الاستثناء، إذ يجيز أن يراعى ذلك المحذوف، ويجعله هو الفاعل، ويحذفه، وهو لو كان ملفوظا به لجاز البدل والنصب على الاستثناء، فكذلك إذا كان محذوفا وحمل أولا على لفظ من، فأفرد الضمير في كان، ثم حمل على المعنى، فجمع في خبر كان فقال : هُوداً أَوْ نَصارى. وهود : جمع هائد، كعائد وعود.
وتقدم مفرد النصارى ما هو أنصران أم نصري. وفي جواز مثل هذين الحملين خلاف، أعني أن يكون الخبر غير فعل، بل صفة يفصل بين مذكرها ومؤنثها بالتاء نحو : من كان قائمين الزيدون، ومن كان قائمين الزيدان. فمذهب الكوفيين وكثير من البصريين جواز ذلك. وذهب قوم إلى المنع، وإليه ذهب أبو العباس، وهم محجوجون بثبوت ذلك في كلام العرب كهذه الآية، فإن هودا في الأظهر جمع هائد، وهو من الصفات التي يفصل بينها وبين مؤنثها بالتاء، وكقول الشاعر :
وأيقظ من كان منكم نياما