مفاتيح الغيب، ج ٣٢، ص : ٣٠٧

بسم اللّه الرحمن الرحيم

سورة الكوثر
ثلاث آيات مكية
[سورة الكوثر (١٠٨) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١)
اعلم أن هذه السورة على اختصارها فيها لطائف : إحداها : أن هذه السورة كالمقابلة للسورة المتقدمة، وذلك لأن في السورة المتقدمة وصف اللّه تعالى المنافق بأمور أربعة : أولها : البخل وهو المراد من قوله : يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ [الماعون : ٢، ٣] الثاني : ترك الصلاة وهو المراد من قوله : الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [الماعون : ٥] والثالث : المراءاة في الصلاة هو المراد من قوله : الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ [الماعون : ٦] والرابع : المنع من الزكاة وهو المراد من قوله : وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ [الماعون : ٧] فذكر في هذه السورة في مقابلة تلك الصفات الأربع صفات أربعة، فذكر في مقابلة البخل قوله : إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ أي إنا أعطيناك الكثير، فأعط أنت الكثير ولا تبخل، وذكر في مقابلة : الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ قوله :
فَصَلِّ أي دم على الصلاة، وذكر في مقابلة : الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ قوله : لِرَبِّكَ أي ائت بالصلاة لرضا ربك، لا لمراءاة الناس، وذكر في مقابلة : وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ قوله : وَانْحَرْ وأراد به التصدق بلحم الأضاحي، فاعتبر هذه المناسبة العجيبة، ثم ختم السورة بقوله : إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أي المنافق الذي يأتي بتلك الأفعال القبيحة المذكورة في تلك السورة سيموت ولا يبقى من دنياه أثر ولا خبر، وأما أنت فيبقى لك في الدنيا الذكر الجميل، وفي الآخرة الثواب الجزيل.
والوجه الثاني : في لطائف هذه السورة أن السالكين إلى اللّه تعالى لهم ثلاث درجات : أعلاها أن يكونوا مستغرقين بقلوبهم وأرواحهم في نور جلال اللّه وثانيها : أن يكونوا مشتغلين بالطاعات والعبادات البدنية وثالثها :
أن يكونوا في مقام منع النفس عن الانصباب إلى اللذات المحسوسة والشهوات العاجلة فقوله : إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ إشارة إلى المقام الأول / وهو كون روحه القدسية متميزة عن سائر الأرواح البشرية بالكم والكيف.
أما بالكم فلأنها أكثر مقدمات، وأما بالكيف فلأنها أسرع انتقالا من تلك المقدمات إلى النتائج من سائر الأرواح، وأما قوله : فَصَلِّ لِرَبِّكَ فهو إشارة إلى المرتبة الثانية، وقوله : وَانْحَرْ إشارة إلى المرتبة الثالثة، فإن منع النفس عن اللذات العاجلة جار مجرى النحر والذبح، ثم قال : إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ ومعناه أن النفس التي تدعوك إلى طلب هذه المحسوسات والشهوات العاجلة، أنها دائرة فانية، وإنما الباقيات الصالحات خير عند


الصفحة التالية
Icon