ج١ص٢
الكائنات الناطقة بتمجيده، كما أبداه ترجمة الحضرة القدسية، دوحة جرثومة المجد الأبطحية، من قرع هامة العز والشرف، وشنف مسامع الدهر بدرر لا تعرف آذان الصدف، من كتاب تدفقت مياه البلاغة من حياضه، وتفجرت ينابيع الإعجاز خلال رياضه، فشرقت بها المصاقع حدا، وغصت بعريض العجز كمداً.
كما قال الوليد وقد أصاخ له :
" والله إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وإنّ أسفله لمغدق وان أعلاه لمثمر وما هذا بقول
بشر ".
والفضل ما شهدت به الأعداء، فكل من ينعم النظر فيه ويمعنه يقول هذا طراز ما أحسنه،
وهم ما هم في الجلاد والجدال، وفتح أكمام الأفواه عن أنوار المقال من كل من ساجل الدهر حتى مل ساجلتة، وصبر حتى وجد صبره من الفرج ضالتة، وكانت مناهل تفسيره تردها سابلة الأفهام، والمورد العذب كثير الزحام، وتفسير البيضاوي له من بينها اليد البيضاء لاقتناصه رواتع الأصلين وبدائع الشريعة الغرّاء، وقد تقدم رتبة وأن جاز منه أخيرا، فلسان حاله يتلو ﴿ وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا ﴾ [ الفرقان : ٣٣ ] وإن أمعنت في تأويله نظراً ليس حسيرا ولا كليلاً، فهو خير وأحسن تأويلاَ.
أتيت بها يدا بيضاء حتى ~ كأنك في الذي أبدعت موسى
وقد أحييت موتى الفضل فيها ~ كما قد كان يحيى الميت عيسى
له فيه وفور حظ وسلاسة لفظ كما قال البحتري :
قد ركبن اللفظ القريب فأدرك ~ ن به غاية المرام البعيد
بل لفظه قريب لكنه أمنع من معشوق له رقيب، وشاؤه بعيد، ولكن ليس لنفس الفكر
وراءه تصعيد فيه أنضر روض طابت ثماره، وتفتحت بيد النسيم أنواره، سقاه من صيب البلاغة هتونه، حتى تشعبت فروعه وتهدلت غصونه، نجوه بصوب الوحي مغدق، ودوحه في ربيع المعاني مثمر مورق وكنت ممن اجتنى باكورة أبكاره، وتمشت في حدائقه أحداق أفكاره، وقد كثرت حواشيه، ونمّ على ضمائر أسراره وأشيه، وتبرّج القليب بعذب ماؤه، وبإنفاق المال يزكو نماؤه، وبصقل الفرند يبدو جوهره وعنقه، ويزيد في عطر المسك الذكي سحقه، راقت محاسنه فالعيون والأذان تهواها، فلو مني الحسن أمانيّ ما تعدّاها.
إذا امتحنت محاسنه أتته ~ غرائب جمة من كل باب
وكيف تتشبث يد المحجن بأهداب سحره، أو يصل غائص النظر إلى قرار فكره، والتفاسير جداول تنصبّ في لجة بحره ولكني رأيت البغاث ربما تفكهت بأعذب الثمار، ووردت قبل الضواري غير الأنهار فحداني ذلك إلى موارده ومصادره، وحثني على الغوص على فرائد جواهره، وأن أكتب عليه حواشي تكون سياجا لثماره، ومقدمات لنتائج أفكاره، التي تحير فيها البيان، ونادت الفضل للمتقدم في كل زمان، ولما ثقبت دررها من الأقلام المثاقب، وكان فكر الشهاب لها هو الثاقب.
ولاح نور من سنا أفقها ~ لا يدعيه البدر والشمس
نظمتها في سلك التحرير عقودا، واجتهدت في أن أقلد بها جيد هذا العصر العاطل
تقليداً، فجاءت مواردها صافية من الكدر، ورياضها محروسة بعين القضاء والقدر، لا زالت وجوهها ناضرة، وعيون معانيها إلى ربها ناظرة، ما انجلى صدأ القلوب والأفهام بتدبر ما في الذكر الحكيم من الأحكام فرحم الله من استصبح من نور القرآن، واستضاء بقبس البيان، وجعل ذلك مطية إلى سبل الجنان.
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومد من القرع للأبواب أن يلجأ
ولما وقفت دهم الأقلام على ساحل التمام، سميتها " عناية القاضي وكفاية الراضي "، وها أنا أقول مستعطياً بكف الضراعة القبول.
( مصنف هذا الكتاب ) أبو سعيد عبد اللّه بن عمر بن محمد بن علي أبو الخير القاضي ناصر الدين البيضاوي نسبة إلى البيضاء قرية من أعمال شيراز كان إماماً في فقه الشافعيّ رحمه الله تعالى