أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا، وقوله تعالى :﴿ والقرآن ذِي الذكر ﴾ أي والقرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد، ونفع لهم في المعاش والمعاد، قال الضحّاك ﴿ ذِي الذكر ﴾ كقوله تعالى :﴿ لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ ﴾ [ الأنبياء : ١٠ ] أي تذكيركم.
وقال ابن عباس ﴿ ذِي الذكر ﴾ ذي الشرف أي ذي الشأن والمكانة. ولا منافاة بين القولين فإنه كتاب شريف، مشتمل على التذكير والإعذار والإنذار، واختلفوا في جواب هذا القسم : فقال قتادة : جوابه ﴿ بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾ واختاره ابن جرير، وقيل : جوابه ما تضمنه سياق السورة بكمالها، والله أعلم، وقوله تعالى :﴿ بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ ﴾ أي إن في هذا القرآن لذكرى لمن يتذكر وعبرة لمن يعتبر، وإنما لم ينتفع به الكافرون لأنهم ﴿ فِي عِزَّةٍ ﴾ أي استكبار عنه وحمية، ﴿ وَشِقَاقٍ ﴾ أي ومخالفة له ومعاندة ومفارقة، ثم خوفهم ما أهلك به الأمم الكاذبة قبلهم فقال تعالى :﴿ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ ﴾ أي من أمة مكذبة، ﴿ فَنَادَواْ ﴾ أي حين جاءهم العذاب استغاثوا وجأروا إلى الله تعالى، وليس ذلك بمُجْدٍ عنهم شيئاً، كما قال عزّ وجلّ :﴿ فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٢ ] أي يهربون، قال التميمي : سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قول الله تبارك وتعالى :﴿ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ ! قال : لليس بحين نداء ولا نزاعٍ ولا فرار، وعن ابن عباس : ليس بحين مغاث، نادوا النداء حين لا ينفعهم وأنشد :
تذكَّرَ ليلى لات حين تذكر... وقال محمد بن كعب : نادوا بالتوحيد حيث تولت الدنيا عنهم، واستناصوا للتوبة حين تولت الدنيا عنهم، وقال قتادة : لما رأوا العذاب أرادوا التوبة في غير حين النداء، وقال مجاهد :﴿ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ ليس بحين فرار ولا إجابة، وعن زيد بن أسلم :﴿ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ ولا نداء في غير حين النداء، وهذه الكلمة، وهي ( لات ) هي ( لا ) التي للنفي زيدت معها التاء، كما تزايد في ثم، فيقولون : ثمت، ورب، فيقولون : ربت. وأهل اللغة يقولون : النوص : التأخر، والبوص : التقدم، ولهذا قال تبارك وتعالى :﴿ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ ﴾ أي ليس حين فرار، ولا ذهاب، والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب.