هذه سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون، فقوله تعالى :﴿ قُلْ ياأيها الكافرون ﴾ يشمل كل كافر على وجه الأرض، ولكن الموجهون بهذا الخطاب هم ( كفار قريش ) دعوا رسول الله ﷺ إلى عبادة الأوثان سنة، ويعبدون معبوده سنة، فأنزل الله هذه السورة وأمر رسوله ﷺ فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية. فقال :﴿ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ يعني من الأصنام والأنداد، ﴿ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴾ وهو الله وحده لا شريك له، ثم قال :﴿ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴾، أي لا أعبد عبادتكم أي ولا أسلكها ولا أقتدي بها، وإنما أعدب الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه، ولهذا قال :﴿ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴾ أي لا تقتدون بأوامر وشرعه في عبادته، بل قد اخترعتم شيئاً من تلقاء أنفسكم، كما قال :﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَمَا تَهْوَى الأنفس ﴾ [ النجم : ٢٣ ] فتبرأ منهم في جميع ما هم فيه، ولهذا كان كلمة الإسلام « لا إله إلاّ الله محمد رسول الله » أي لا معبود إلاّ الله، ولا طريق إليه إلاّ بما جاء به الرسول ﷺ، والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن الله بها، ولهذا قال :﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ﴾، كما قال تعالى :﴿ وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ﴾ [ يونس : ٤١ ]، وقال :﴿ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ [ القصص : ٥٥، الشورى : ١٥ ]، وقال البخاري ﴿ لَكُمْ دِينُكُمْ ﴾ الكفر، ﴿ وَلِيَ دِينِ ﴾ الإسلام، ولم يقل : ديني، لأن الآيات بالنون فحذف الياء، كما قال :﴿ فَهُوَ يَهْدِينِ ﴾ [ الشعراء : ٧٨ ] و ﴿ يَشْفِينِ ﴾، وقال غيره :﴿ لاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾ الآن ولا أجيبكم بما بقي من عمري ﴿ وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴾، ونقل ابن جرير عن بعض أهل العربية أن ذلك من باب التأكيد كقوله :﴿ فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً * إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً ﴾ [ الشرح : ٥-٦ ] فهذه ثلاثة أقوال : أولهما : ما ذكرناه أولاً. الثاني : ما حكاه البخاري وغيره من المفسرين أن المراد :﴿ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴾ في الماضي ﴿ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ ﴾ في المستقبل. الثالث : أن ذلك تأكيد محض. وثمّ قول رابع : نصره ابن تيمية في بعض كتبه، وهو أن المراد بقوله :﴿ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ﴾ نفي الفعل لأنها جملة فعلية، ﴿ وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ ﴾ نفي قبوله لذلك بالكلية، لأن النفي بالجملة الإسمية آكد، فكأنه نفي الفعل، وكونه قابلاً لذلك، ومعناه فني الوقوع، ونفي الإمكان الشرعي أيضاً، وهو قول حسن أيضاً، والله أعلم.


الصفحة التالية
Icon