فصاحته - ﷺ -
سنقول في هذا الباب بما يحضُرنا من جملة القول، لا نسترسل في الاتساع ولا نبسُط كله، كما أننا لا نقفُ دون القصد، ولا ننكل عن الغرض الذي يتعلق بكتابنا، فإنا لو ذهبنا نستقصي في
الكلام عن رسول الله - ﷺ - ونشأته وأدبه وأثره في العرب وفي أحوالهم، وما كان لهم منه، ثم ما
كان له منهم، إلى كل ما يتصل بذلك سبباً من الأسباب، أو يداخله جهة من الجهات، أو يتعلق به ضرباً من التعلق - لذهبنا إلى سعةٍ من القول، وإلى فنون مختلفة من التاريخ وفلسفته، تحفِلُ ببعضها الأجزاء الكثيرة والكتب المفردة، ولكتا سنَقصر الكلام على جهة واحدة من ذلك كله، وقد
وسعنا العذرُ بما اعتذرنا.
أما فصاحته - ﷺ - فهي من السمْتِ الذي لا يؤخذ فيه على حقه، ولا يتعلق بأسبابه متعلق،
فإن العرب وإن هذبوا الكلام وحذقوه وبالغوا في إحكامه وتجويده، إلا أن ذلك قد كان منهم عن نظر متقدم، وروية مقصودة، وكان عن تكلف يُستعان له بأسباب الإجادة التي تسمو إليها الفطرة
اللغوية فيهم، فيشبه أن يكون القول مصنوعاً مقدراً على أنهم مع ذلك لا يسلمون من عيوب الاستكراه والزلل والاضطراب، ومن حذف في موضع إطناب، واطناب في موضع، ومن كلمة غيرها أليقُ، ومعنى غيره أردُّ، ثم هم في باب المعاني ليس لهم إلا حكمة التجربة، وإلا فضل ما
يأخذ بعضهم عن بعض، قل ذلك أو كثر، والمعاني هي التي تعمر الكلام وتستتبع ألفاظه، وبحسَبها يكون ماؤه ورونقه، وعلى مقدارها وعلى وجه تأديتها يكون مقدار الرأي فيه ووجه القطع
بَيدَ أن رسول الله - ﷺ -كان أفصح العرب، على أنه لا يتكلف القول، ولا يقصد إلى تزيينه،
ولا يبغي إليه وسيلة من وسائل الصنعة، ولا يجاوز به مقدار الإبلاغ في المعنى الذي يريده، ثم لا يعرض له في ذلك سقَط ولا استكراه؛ ولا تستزله الفُجاءة وما يَبْدَه من أغراض الكلام عن الأسلوب الرائع، وعن النمط الغريب والطريقة المحكمة، بحيث لا يجد النظر إلى كلامه طريقاً
يتصفح منه صاعداً أو منحدراً؛ ثم أنت لا تعرف له إلا المعاني التي هي إلهام النبوة، ونتاج الحكمة، وغاية العقل، وما إلى ذلك مما يخرج به الكلام وليس فوقه مقداز إنساني من البلاغة والتسديد وبراعة القصد والمجيء في كل ذلك من وراء الغاية كما سنعرف.
وإن كان كلامه - ﷺ - لكما قال الجاحظ: " هو الكلام الذي قل عدد حروفه، وكثر عدد معانيه، وجل عن الصنعة، ونُزِّه عن التكلف.. استعمل المبسوط في موضع البسط؛ والمقصور


الصفحة التالية
Icon