(فصل)
الخلوص والقصد والاستيفاء
أما فيما عدا هذين النوعين من الأوضاع التركيبية، فإن نسق البلاغة النبوية يمتاز في جملته بأنه ليس من شيء أنت واجده في كلام الفصحاء وهو معدود من ضروب الفصاحة ومتعلقاتها - إلا وجدته في هذا النسق على مقدار من الاعتبار يفرِدهُ بالميزةِ، ويخصه بالفضيلة، لأن كلامه - ﷺ - في باب التمكين لا يَعدِله شيء من كلام الفصحاء، فلا تلمح في جهة من جهاته ثلمة يقتحم عليه الرأيُ منها وتنساب فيها الكلمات التي هي من لغة النقد والتزييف أو بعض هذه الكلمات، أو أضعف ما يكون من بعضها، إذ هو مبني على ثلاثة الخلوص، والقصد، والاستيفاء.
(١) أما الأول فهو في اللغة ما علمت وفي الأسلوب ما عرفت مما وقفناك عليه وهو منفرد فيهما جميعاً، لأنه لم يكن في العرب ولن يكون فيمن بعدهم أبدَ الدهر من ينفذُ في اللغة وأسرارها وضعاً وتركيباً، ويستعبدُ اللفظ الحر، ويحيط بالعتيق من الكلام، ويبلغ من ذلك إلى الصميم على ما كان من شأنه - ﷺ -، ولا نعرف في الناس من يتهيأ له الأسلوب العصبى الجامعُ المجتمعُ على توثق السرد وكمال الملاءمة، كما تراه في الكلام النبوي، وما من فصيح أو بليغ إلا وهو في إحدى هاتين المنزلتين دون ما يكون في الأخرى على ما يلحقه من النقص فيهما جميعاً إذا
تصفحتَ وجوهَ كلامه وضروب الفصاحة فيه، واعتبرت ذلك بما سلف؛ وأبلغُ الناس من وفق أن يكون في المنزلة الوسطى بين منزلتيه - ﷺ -.
(٢) وأما القصدُ والإيجاز والاقتصار على ما هو من طبيعة المعنى في ألفاظه ومن طبيعة الألفاظ في معانيها.
ومن طبيعة النفس في حظها من الكلام وجهتيهِ (اللفظية والمعنوية) -
فذلك مما امتازت به البلاغة النبوية حتى كان الكلام لا يعدو فيها حركةَ النفس، وكان الجملة تخلق في منطقه - ﷺ - خَلقاً سوياً، أو هي تنزع من نفسه انتزاعاً، وهذا عجيب حتى ما يمكن أن يعطيهُ امرؤ حظه من التأمل إلا أعطاه حظ نفسه من العجب، وإنَّما تتم في بلاغته - ﷺ - بالأمر الثالث.
(٣) وهو الاستيفاء، الذي يخرج به الكلام - على حذف فضوله وإحكامه ووجازَته - مبسوط المعنى باجزائه ليس فيها خداج ولا إحالة ولا اضطراب حتى كان تلك الألفاظ القليلة إنما ركبت تركيباً على وجه تقتضيه طبيعة المعنى في نفسه، وطبيعته في النفس، فمتى وعاها السامع


الصفحة التالية
Icon