أفسدت الجن وسفكت الدماء، وإنما بُعثنا عليهم لذلك. فقال:"إني أعلم ما لا تعلمون"، يقول: إني قد اطلعتُ من قلب إبليس على ما لم تطلعوا عليه، من كبره واغتراره. قال: ثم أمر بتُربة آدم فرُفعت، فخلق الله آدم من طين لازب - واللازبُ: اللزِجُ الصُّلب، من حمأ مسنون - مُنْتِن. قال: وإنما كان حمأ مسنونًا بعد التراب. قال: فخلق منه آدم بيده، قال فمكث أربعين ليلة جسدًا ملقًى. فكان إبليس يأتيه فيضربه برجله فيُصَلصِل -أي فيصوّت- قال: فهو قول الله: (مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ) [سورة الرحمن: ١٤]. يقول: كالشيء المنفوخ الذي ليس بمُصْمت (١). قال: ثم يَدخل في فيه ويخرج من دُبُره، ويدخل من دُبُره ويخرج من فيه، ثم يقول: لست شيئًا! -للصّلصَلة- ولشيء ما خُلقت! لئن سُلِّطتُ عليك لأهلكنك، ولئن سُلِّطتَ علي لأعصِيَنَّك. قال: فلما نفخ الله فيه من روحه، أتت النفخة من قبل رأسه، فجعل لا يجري شيء منها في جسده إلا صَار لحمًا ودمًا. فلما انتهت النفخة إلى سُرّته، نظر إلى جسده، فأعجبه ما رأى من حسنه، فذهب لينهضَ فلم يقدرْ، فهو قول الله: (وَكَانَ الإنْسَانُ عَجُولا) [سورة الإسراء: ١١] قال: ضَجِرًا لا صَبرَ له على سَرَّاء ولا ضرَّاء. قال: فلما تمت النفخة في جسده عطس، فقال:"الحمد لله ربّ العالمين" بإلهام من الله تعالى، فقال الله له: يرحمُك الله يا آدم. قال: ثم قال الله للملائكة الذين كانوا مع إبليس خاصة دون الملائكة الذين في السموات: اسجدوا لآدم. فسجدُوا كلهم أجمعون إلا إبليس أبَى واستكبر، لِما كان حدّث به نفسه من كبره واغتراره. فقال: لا أسجُد له، وأنا خير منه وأكبرُ سنًّا وأقوى خَلْقًا، خلقتني من نار وخلقته من طين -يقول: إن النار أقوى من الطين. قال: فلما أبَى إبليس أن يسجد أبلسه الله- أي آيسه من الخير كله (٢)، وجعله شيطانًا رجيما عقوبةً لمعصيته. ثم علم آدم الأسماء كلها، وهي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس: إنسان ودابة وأرْض وسهلٌ وبحر وجبل وحمار، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها. ثم عرض هذه الأسماء على أولئك الملائكة -يعني الملائكة الذين كانوا مع إبليس، الذين خلقوا من نار السموم- وقال لهم: أنبئوني بأسماء هؤلاء - يقول: أخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين، إن كنتم تعلمون أنِّي لمَ أجعلُ خليفة في الأرض (٣). قال: فلما علمت الملائكة مؤاخذةَ الله عليهم فيما تكلموا به من علم الغيب، الذي لا يعلمه غيرُه، الذي ليس لهم به علم، قالوا: سبحانك، تنزيها لله من أن يكون أحد يعلم الغيب غيرُه - تبنا إليك، لا علم لنا إلا ما علمتنا، تبرِّيًا منهم من علم الغيب، إلا ما علمتنا كما علّمت آدم. فقال: يا آدم أنبئهم بأسمائهم - يقول: أخبرهم بأسمائهم. فلما أنبأهم بأسمائهم قال: ألم أقل لكم - أيها الملائكة خاصة - إني أعلم غيبَ السموات والأرض، ولا يعلمه غيري، وأعلم ما تبدون - يقول: ما تُظهرون - وما كنتم تكتمون - يقول: أعلم السرّ كما أعلم العلانية، يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والاغترار (٤).
قال أبو جعفر: وهذه الرواية عن ابن عباس، تُنبئ عن أن قول الله جل ثناؤه:"وإذ قال ربك للملائكة إني جاعلٌ في الأرص خليفة"، خطابٌ من الله جل ثناؤه لخاصٍّ من الملائكة دون الجميع، وأنّ الذين قيل لهم ذلك من الملائكة كانوا قبيلة إبليس خاصةً - الذين قاتلوا معه جنّ الأرض قبل خلق آدم - وأنّ الله إنما خصّهم بقيل ذلك امتحانًا منه لهم وابتلاءً، ليعرِّفهم قصورَ علمهم وفضلَ كثير ممن هو أضعفُ خلقًا منهم من خلقه عليهم، وأنّ كرامته
(٢) في المطبوعة: "وآيسه الله... ".
(٣) في المطبوعة: "أنكم تعلمون أني أجعل في الأرض خليفة"، وقوله"لم أجعل.. " سقط"لم" من المخطوطة أيضًا. والصواب من الدر المنثور، والشوكاني، حيث يأتي تخريجه. وسيأتي على الصواب أيضًا في رقم: ٦٧١ ص: ٤٩٠، وهو مختصر من هذا الأثر.
(٤) الخبر: ٦٠٦ - خرجه السيوطي في الدر المنثور مفرقًا ١: ٤٤-٤٥، ٤٩، ٥٠. والشوكاني ١: ٥٢ بعضه مفرقًا. وروى الطبري قطعة منه، بهذا الإسناد، في تاريخه ١: ٤٢-٤٣.