الإجابة
الحمد لله
أولا :
يطلق الجهل على معان :
منها : عدم العلم .
ومنها : عدم العمل بالعلم ، ولذلك يقال لكل من عصى الله ، أو أساء الخلق ، أو فعل
ما لا ينبغي له أن يفعله : يقال له : جاهل .
وقد ورد إطلاق " الجهل" على هذا المعنى الثاني في القرآن الكريم في آيات كثيرة .
منها : قول الله تعالى : ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ
يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ) النساء/17 .
قال ابن جرير رحمه الله : "اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : (بِجَهَالَةٍ)
فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ بِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِيهِ ، أَنَّ عَمَلَهُ
السُّوءَ هُوَ الْجَهَالَةُ الَّتِي عَنَاهَا. [يعني : أن الجهالة هي عمل السوء].
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ :
عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَقُولُونَ : كُلُّ ذَنْبٍ أَصَابَهُ
عَبْدٌ فَهُوَ بِجَهَالَةٍ.
وعَنْ قَتَادَةَ في قوله تعالى: (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ)
قَالَ : اجْتَمَعَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَرَأَوْا أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ عَصَى بِهِ فَهُوَ جَهَالَةٌ ، عَمْدًا كَانَ أَوْ
غَيْرَهُ .
وعَنْ مُجَاهِدٍ ، فِي قَوْلِهِ : (لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ)
قَالَ : كُلُّ مَنْ عَصَى رَبَّهُ فَهُوَ جَاهِلٌ ، حَتَّى يَنْزِعَ عَنْ
مَعْصِيَتِهِ.
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ
يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ) قَالَ : مَنْ عَمِلَ السُّوءَ فَهُوَ جَاهِلٌ ،
مِنْ جَهَالَتِهِ عَمِلَ السُّوءَ.
وقَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ : ( إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ
لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ) قَالَ
: الْجَهَالَةُ : كُلُّ امْرِئٍ عَمِلَ شَيْئًا مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ فَهُوَ
جَاهِلٌ أَبَدًا حَتَّى يَنْزِعَ عَنْهَا وَقَرَأَ : (هَلْ عَلِمْتُمْ مَا
فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ) ، وَقَرَأَ : (وَإِلاَّ
تَصْرِفْ عَنِي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأُكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ) ،
قَالَ : مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ حَتَّى يَنْزِعَ عَنْ مَعْصِيَتِهِ."
انتهى من " تفسير ابن جرير الطبري" (6/506-509) باختصار .
وينظر : " التحرير والتنوير " لابن عاشور (3/361) .
ومنها قول الله تعالى على لسان يوسف
عليه السلام : ( قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ
وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ
الْجاهِلِينَ) يوسف/33 .
قال القرطبي رحمه الله :
"(وأكن من الجاهلين) أي ممن يرتكب الإثم ويستحق الذم ، أو ممن يعمل عمل الجهال" .
انتهى من " تفسير القرطبي " (9/185) .
وقال الألوسي رحمه الله :
"(وأكن من الجاهلين) أي : الذين لا يعملون بما يعلمون ، لأن من لا جدوى لعلمه فهو
ومن لا يعلم سواء .
أو : من السفهاء ، بارتكاب ما يدعونني إليه من القبائح ؛ لأن الحكيم لا يفعل القبيح
، فالجهل بمعنى السفاهة : ضد الحكمة ، لا بمعنى عدم العلم " انتهى من " روح المعاني
" (12/236) .
وهذا المعنى من معاني الجهل (وهو عدم
العمل بالعلم ، وسوء الخلق ، وفعل ما لا ينبغي) هو المراد من قول موسى عليه السلام
: (أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) أي الذي يسيئون الأعمال والأخلاق ، فيستهزؤون
بعباد الله ، وليس المراد بذلك نفي الجهل الذي هو ضد العلم .
وبيان ذلك :
قال الله تَعَالَى : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ
أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ
أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا
هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ
بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ) البقرة .
قال ابن جرير رحمه الله : " ولا ينبغي أن يكون من أنبياء الله -فيما أخبرت عن الله
من أمر أو نهي- هزؤ أو لعبؤ. فظنوا بموسى أنه في أمره إياهم -عن أمر الله تعالى
ذكره بذبح البقرة عند تدارئهم في القتيل إليه - أنه هازئ لاعب . ولم يكن لهم أن
يظنوا ذلك بنبي الله ، وهو يخبرهم أن الله هو الذي أمرهم بذبح البقرة ...
فأخبرهم موسى -إذْ قالوا له ما قالوا- أن المخبر عن الله جل ثناؤه بالهزء والسخرية،
من الجاهلين. (2) وبرأ نفسه مما ظنوا به من ذلك فقال: (أعوذ بالله أن أكون من
الجاهلين) ، يعني من السفهاء الذين يروون عن الله الكذب والباطل." انتهى من " تفسير
ابن جرير " (2/182) .
وقال الألوسي رحمه الله :
"(قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) أي : من أن أعد في عدادهم ، والجهل كما قال
الراغب له معان : عدم العلم ، واعتقاد الشيء بخلاف ما هو عليه ، وفعل الشيء بخلاف
ما حقه أن يفعل ، سواء اعتقد فيه اعتقادا صحيحا أو فاسدا، وهذا الأخير هو المراد
هنا ".
انتهى من " روح المعاني " (1/76) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"(أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) أي أعتصم بالله أن أكون من أولي الجهل ، فأتخذ
عباد الله هزواً؛ والمراد بـ "الجهل" هنا السفه ، كما في قوله تعالى: (إنما التوبة
على الله للذين يعملون السوء بجهالة) [النساء: 17] . أي بسفاهة . (ثم يتوبون من
قريب) [النساء: 17]" .
ثم قال :
"من فوائد الآية : ومنها: أن الاستهزاء بالناس من الجهل وهو الحمق، والسفه؛ لقول
موسى عليه الصلاة والسلام: ( أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين )" .
انتهى من " تفسير سورة البقرة " (1/235، 241) .
ثانيا :
على فرض أن المراد من الآية نفي الجهل الذي هو ضد العلم ، فليس في ذلك أي إشكال ،
لأنه ليس المراد من نفي الجهل : إثبات العلم المطلق الذي لا يكون إلا لله تعالى ،
بل المراد نفي الجهل الذي يقبح بالإنسان أن يتصف به ، أما العلم الذي لا يستطيع
الإنسان أن يصل إليه ، وليس ذلك في مقدوره ، فلا يذم الإنسان على فقده ، ولا يوصف ،
من لم يبلغه بأنه : جاهل ، أصلا ؛ وإلا لما انقسم الناس إلى عالم وجاهل ، وهذا مما
تعارف الناس عليه ، لا ينكرونه ، ولا يستنكرونه .
والله أعلم .